لا تفضي خيارات المستطلعين إلى سياسات خاطئة كما يبدو، أو حتى إلى سياسات، وإنما هي مواقف دائرية، تبدأ من اليأس من الحاضر، ورفضه، ثم إدانة الأطراف الفاعلة كلها، وبالتساوي، ثم اختيار السياسة التي ترجع بنا إلى حيث كنا، في حلقة جهنمية من الدوران المجاني، والانتقام من النفس، ومن الآخر ... بالانتحار.

Ad

ليس أسوأ مما يحصل لنا، سوى ما نبتغيه لأنفسنا. هل نحن حقاً ضحية أنظمتنا؟ هل ما ينقصنا الديموقراطية وتدعيم المشاركة السياسية وتسليم القياد للشعوب؟ هل نحن أكثر استنارة من حكامنا، وأشد غيرة على مستقبلنا ومقدراتنا؟ دعونا نخضع تلك الفرضية للشك برهة.

ليست التكنولوجيا كلها رجساً من عمل الشيطان، ونحن على تواضع إحساسنا الحضاري، أظهرنا استجابة مُرضية، في حدود أميتنا وفقرنا وعجزنا التقني، لتجلياتها، وانخرطنا في ألعابها بشرها وخيرها، وغثها وسمينها.

يضع أغلب المواقع على شبكة الإنترنت زاوية لاستقصاء الرأي، يذيّلها معظمها بتنويه متكرر: «نتائج هذا الاستطلاع غير علمية، ولا تعبر عن رأي الموقع». حسناً، نحن نعرف أنها غير علمية؛ إذ إنها لا تمثل عينة اختيرت بطريقة مدروسة، وقد تكون مزورة كلياً أو جزئياً، بغرض خدمة توجه أو سياسة ما. وأياً كانت الأهداف، أو الطريقة التي أعدت بها تلك الاستطلاعات، فإن نتائجها تدون وتؤرشف، وقد تبقى، في بعض المواقع، ماثلة، تؤشر إلى اتجاه ما، أو رأي جمعي، أو ما يراد له أن يكون رأياً جمعياً.

فإذا تابعنا نتائج الاستطلاع في أربعة من أهم المواقع العربية، التي تحظى بنسب المطالعة والتفاعل الكبرى، متوخين أن ما تسفر عنه هذه الاستطلاعات قد لا يمثل حصيلة علمية، أو نتاجاً حقيقياً لتوجهات المشاركين فيها، وأنها قد تكون مغلوطة أو مزورة، بعضها أو كلها، بغرض إشاعة توجهات ما حيال قضايانا المهمة، فسنفاجأ، وقد نخلص إلى إجابة تجلدنا جميعاً، ولا ترضينا مهما حاولنا التحايل أو التبرير.

فقد عارضت الأغلبية المطلقة بقاء القوات الأميركية في العراق، لكنها توقعت أيضاً تفاقم الحرب الأهلية في هذا البلد إذا خرج المحتل.

تلك الأغلبية نفسها حافظت على أدائها ذاته في الموضوع الفلسطيني؛ فقد توقع 62 % من المستطلعين استمرار حال الصراع بين العرب وإسرائيل، وأكد 70 % أن العرب هزموا في هذا الصراع، ورفض 83 % مشروع الدولتين، ورأى 89 % أن معاهدات السلام مع إسرائيل لم تحقق أي مصالح للأطراف العربية، ورفض 75 % استئناف المفاوضات، ورأى 94 % أن «العمليات الاستشهادية» تفيد مصلحة الفلسطينيين، وحض 88 % على «مواصلة الكفاح المسلح»، رغم أن 74 % رأوا أن حرباً نظامية تخوضها الدول العربية ضد إسرائيل ستؤدي بها إلى الخسارة.

يندهش المرء حقاً من درجة الاتساق العالية بين المستطلعين، إذ يظهر هذا واضحاً في تكتل الأغلبية عادة في نسبة تقارب تلك التي يُنتخب بها رؤساؤنا في الاستفتاءات. هذه النسبة تريح الإحصائي عادة، إذ تدله إلى النتائج القاطعة والواضحة، وهي نفسها تكدّر المحلل، ويحتار فيها ذو العقل، خاصة إذا قارنها بما يظهر في استطلاعات الرأي على المواقع الأجنبية من تباين واضح في الآراء، يعكس تقارباً في النسب، ويجعل من استخلاص النتائج عملية صعبة.

كيف ترى الأغلبية المستقبل إذن؟ هنا يهيمن المزاج العكر بوضوح؛ إذ يؤكد 95 % أن فشل الأنظمة العربية في التعامل مع أزمة العراق سيؤدي حتماً إلى تنامي أفكار تنظيم «القاعدة». حسناً، هذه رؤية عقلانية، قد يفسرها أن جمهور تلك الاستطلاعات يفترض به أنه يقرأ ويكتب، ويتعدى خط الفقر؛ بامتلاكه جهاز حاسوب، وصلة مدفوعة إلى «الإنترنت»، وهو الأمر الذي مكّنه، على ما يبدو، من إدراك أن أفكاراً مثل أفكار «القاعدة» تنمو عادة على خلفية الفشل والعجز أمام الأزمات. لكن البقية لا تأتي على الموجة «المستنيرة» ذاتها، فـ 72 % أيدوا نظاماً إسلامياً في العراق، وبالطبع لم يسألهم الاستطلاع عن هوية «الإسلامي» هنا تحديداً، كما اعتبر 75 % أن تغيير المناهج التعليمية في الدول العربية لا يخدم المصلحة الوطنية، بعدما رأى 74 % أن «العلمانية ضد الدين».

لا تفضي خيارات المستطلعين إلى سياسات خاطئة كما يبدو، أو حتى إلى سياسات، وإنما هي مواقف دائرية، تبدأ من اليأس من الحاضر، ورفضه، ثم إدانة الأطراف الفاعلة كلها، وبالتساوي، ثم اختيار السياسة التي ترجع بنا إلى حيث كنا، في حلقة جهنمية من الدوران المجاني، والانتقام من النفس، ومن الآخر ... بالانتحار.

ماذا عن المستقبل؟ 63 % رأوا أن السنوات المقبلة ستكون أسوأ من سابقتها، و67 % أكدوا أن احتمالات التوصل إلى اتفاقية سلام بين إسرائيل وسورية ضئيلة، فيما توقعت الأغلبية أن الأوضاع داخل لبنان ستتجه إلى مزيد من الانفجار.

لا تنصح الأغلبية الدول العربية بتفعيل عضويتها في منظمة التجارة العالمية، «لأنها لن تحقق أي مكاسب اقتصادية منها»، كما تعتقد أن انخراط الدول العربية في المنظمات الدولية عموماً لا يحقق مصالحنا.

ليس مطلوباً منك سوى أن تتصفح أحد تلك المواقع، وتشارك في استطلاع ما، وتسأل نفسك: لم اخترت ما اخترت من بدائل؟ أو تستعرض النتائج، ولن تجد سوى مزاج عكر، وقطع وحسم مريحين لمن يُعمل الفكر أو يعطله، وبدائل تفضي إلى الجحيم أو الكارثة في أفضل الأحوال.

سيمكننا أن نبرر بعدم علمية تلك الاستطلاعات، أو بسوداوية المزاج العام وتوالي النكبات، كما يمكننا أن نحمل الحكومات المسؤولية، وننتقدها علانية في الدول التي تبيح الصياح، أو سراً في تلك التي تحظره. لكن من منا ينكر أن هذا هو عقلنا الجمعي، وأن تلك توجهاتنا العامة، وأن صندوقاً انتخابياً يفتح أمامنا في ظروف حرية حقيقية، لن يؤدي بنا سوى إلى حيث يريد هذا العقل.

 

كاتب مصري