Ad

شهد عام 2007 انقلاباً حاسماً وخطيراً جعل من «عبد المأمور» شخصية عامنا الجديد، فقد أدرك هذا الموظف العتيد أن الدولة لم تعد أماً أو أباً لجميع أبنائها المصريين كما كانت في العصر الناصري عندما كانت جنيهات مرتبه القليلة تكفيه وتعينه على الزهو بعمله ووطنه وحفظ ماء وجهه والثقة بالمستقبل.

«أنا عبد المأمور» عبارة قديمة شاعت ودارت وصارت هوية للموظف وراية له يواجهك بها معلناً أنه بلا سلطة أو رأي أو إرادة، وأنه فقط مجرد عبد ينفذ أوامر وقرارات السادة الكبار الجالسين في الأعالي، والعبارة عندما تتأملها أو تحللها ستفتح أفقاً واسعاً للتأويل وتضعك أمام ذلك التراتب الوظيفي العتيد، فعبد المأمور هو في الحقيقة عبد لعبد آخر أكبر قليلاً وأعلى رتبة وعبد في الوقت نفسه لعبد أكبر وأكبر... سلسلة طويلة من العبيد المأمورين تنتهي في قمة الهرم الوظيفي بالسيد الآمر-الفرعون الذي يجله العبيد ويخشونه ويعملون على إرضائه وتنفيذ أوامره وتعاليمه في كل الأحوال.

على كتف الموظف الصغير «عبد المأمور»القابع في القاع يقف ويجلس الموظفون الآخرون المكلفون بالإشراف ومتابعة تنفيذ الأوامر بالإضافة إلى تل من الواجبات الوظيفية، وفي مقدمتها احترام التراتب وتبجيل المديرين والرؤساء والانصياع لأوامرهم وإحاطتهم بالتوقير والقداسة.

وقد انشغل الأدب العربي والعالمي بالموظف الصغير الذي صار بطلاً للعديد من القصص والروايات، وأظننا مازلنا نتذكر صور هذا الموظف في أعمال يحيى حقي، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ خصوصاً روايته «القاهرة الجديدة» وبطلها محجوب عبدالدايم، لكن قصة «موت موظف» للكاتب الروسي أنطون تشيكوف تظل أشهر وأجمل قصة اتخذت من الموظف الصغير بطلاً لها يسوقه سوء حظه إلى إهانة التراتبية بعد أن عطس وهو يشاهد عرضاً مسرحياً ولوّث قفا رئيسه الذي كان يجلس في الصف الأمامي، وهذه العطسة الكارثة تسمم حياة الموظف الصغير وتبدل أحواله ليصبح مشغولاً بالاعتذار واسترضاء رئيسه، وإبلاغه أن الإهانه لم تكن مقصودة، وأنه كان مصاباً بنوبة برد قاسية. ولتحقيق هذا الحلم راح يلهث ويشرح ويبدي أسفه والرئيس الذي نسي كل شيء لا يمنحه فرصاً للاعتذار اللائق. وتنتهي القصة بعودة هذا الموظف البائس إلي بيته مهموماً ويائساً لكي يتمدد على سريره ويموت.

الوظيفة مهما تواضعت تعني العمل والكسب والانخراط في حركة المجتمع والعالم، والوظيفة الحكومية كانت منذ العصر الفرعوني حتى وقت قريب مقدسة ومطلوبة، وينتظرها الجميع والمثل الشعبي المصري «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» يؤكد ذلك ويشير في الوقت نفسه إلى المهابة التي كان الموظف ينعم بها، فهو يد الدولة وعينها وأداتها التي تمكنها من بسط سطوتها، وبهذه الصفة استحق لقب عبد المأمور واستحق أيضاً شك الكثيرين فيه وفي استعداده لإعلان الغضب والاحتجاج ومشاركة الآخرين همومهم وتمردهم على الفساد والمعاناة والتردي، خصوصاً أن التاريخ حدثنا عن انتفاضات الفلاحين والطلبة والعمال لكنه لم يذكر الموظف الحكومي الذي كان دائما في الجانب الآخر منحازاً لمن يمنحه راتبه وصفته الرسمية، لكن عام 2007 شهد انقلاباً حاسماً وخطيراً جعل من عبد المأمور شخصية عامنا الجديد، فقد أدرك هذا الموظف العتيد أن الدولة لم تعد أماً أو أباً لجميع أبنائها المصريين كما كانت في العصر الناصري عندما كانت جنيهات مرتبه القليلة تكفيه وتعينه على الزهو بعمله ووطنه وحفظ ماء وجهه والثقة بالمستقبل، وأدرك أيضاً أن الدولة قد أدارت ظهرها لمعاناته وتركته يواجه مع أغلبية المواطنين غيلان الرأسمالية المتوحشة ووحوش الاحتكار والغلاء والفساد والجوع، فلم يجد أمامه سوى الاحتجاج والاعتصام والتشبث بحقوقه، ثم التحرر من ذلك التراث الثقيل «احترام التراتبية وتقديس الكبار الجالسين في الأعالي».

هكذا خرج موظفو الضرائب العقارية على المألوف وتحدوا رئيس الوزراء ووزير المالية الذي رفض مطالبهم في البداية لكنهم واصلوا احتجاجهم واعتصامهم، ومعهم أسرهم أمام مبنى مجلس الوزراء مطالبين بتحسين أجورهم ومساواتهم بزملائهم موظفي الضرائب الآخرين، وكان على الحكومة في النهاية أن ترضخ وتتحول من آمر إلى مأمور، وتعرف أن عبد المأمور قد أنهى عبوديته وتحول إلى السيد المحترم الموظف وأحد أهم شخصيات العام.

* كاتب وشاعر مصري