تجّار الكلام والشّعارات الذين أمضوا حياتهم يراقبون المشهد عن بعد، وهم يلعقون بأطراف ألسنتهم «القشطة» المثلّجة صبّوا جام غضبهم على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، وقالوا فيه أكثر مما «قاله مالك في الخمر»، وكأن المسألة مسألة بلاغة خطابية وليست مسألة موازين قوى، ومسألة معادلة هي لغير مصلحة الفلسطينيين والعرب.ليس أسهل من أن يقف مراقب بعيداً عن الحدَثِ، حتى إن كان هذا الحدث مباراة كرة قدم، ويأخذ في إصدار الأحكام والانتقادات وهو مرتاح البال، وربما وهو يلعق بطــرف لسانه «القشطة» المثلجة، وهذا حصل مثله وأكثر منه في أعقاب حرب يونيو عام 1967 عندما ذهب منظرو المقاهي في جلسات «التحشيش الفكري» إلى أن المطربة العظيمة أم كلثوم هي سبب تلك الهزيمة النكراء... وهذا بالتأكيد أراح الذين كانوا يبحثون عن مشجب آخر يعلّقون عليه مسؤولية هذه الكارثة غير مشجبهم.
حتى بعض وسائل الإعلام الغربية كانت قد صدقت هذه الحكاية «المفبركة» التي ردّدتها الإذاعة الإسرائيلية وهي تمد لسانها في وجوه العرب استهزاءً بهم و«مسخرة» عليهم، ومما قالته على هذا الصعيد: «إن مُواء أم كلثوم الذي بقي يتردّد في العواصم والمدن العربية سنوات طويلة، والذي يشبه مواء قطةٍ عاشقة سبب هزيمة يونيو هذه»!!.
وبالطبع فإنه لا «مواء» أم كلثوم ولا مواء كل قطط الكرة الأرضية هو سبب تلك الكارثة التي دفع العرب ثمنها كل هذه الأعوام التي سيبقون يدفعون ثمنها لسنوات مقبلة عديدة... إن السبب يكمن في أن الأنظمة «الثورية» التي تصدّت لقيادة الأمة العربية كانت أفعالها أقل من أقوالها بكثير، وأنها كانت فاسدة ومُفسِدة، وأنها مزّقت هذه الأمة شرّ ممزّق، وأنها أقحمتها في حرب كانت إسرائيل تريد اندلاعها في ذلك الموعد الذي اندلعت فيه، فكانت النتيجة هزيمة نكراء يندى لها جبين التاريخ.
الآن يحدث الشيء نفسه فتجّار الكلام والشّعارات الذين أمضوا حياتهم يراقبون المشهد عن بعد، وهم يلعقون بأطراف ألسنتهم «القشطة» المثلجة صبّوا جام غضبهم على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) وقالوا فيه أكثر مما «قاله مالك في الخمر»، وكأن المسألة مسألة بلاغة خطابية وليست مسألة موازين قوى، ومسألة معادلة هي لغير مصلحة الفلسطينيين والعرب.
لم يترك «أبو مازن» في خطابه في افتتاح «أنابوليس» يوم الثلاثاء الماضي شاردة ولا واردة إلا تحدث عنها، وأصرَّ عليها من القدس إلى اللاجئين إلى الحدود إلى المياه إلى المستوطنات إلى الجدار العازل... إلى كل شيء ومع ذلك فإنه لم يسلم من ألسنة الذين أمضوا حياتهم وهم يراقبون الأمور عن بعد ويناضلون من خلال جلسات «التحشيش الفكري» الذي لا يتقنون غيره حتى على صعيد مباراة كرة قدم.
أحدهم قال من خلال إطلالة عبر إحدى الشاشات العربية إنه كان على محمود عباس ألا يبتسم وهو يقف بين بوش وأولمرت، وإن عليه أن يكون له من اسمه نصيب، وأن يكون عابساً... وقال آخر إنه ما كان عليه أن يظهر بربطة عنق «سماوية» اللون كربطة عنق رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقال آخرون كـُثر إنه كان عليه ألاَّ ينطق بكلمة «إسرائيل» فهذه دولة العدو الصهيوني المجرمة والمغتصبة.
فهل هذا معقول؟! هل بعد كل هذه التجارب وكل هذه الهزائم يريدون أن يُطل محمود عباس على سكان الكرة الأرضية بهيئة كالهيئة التي أطل بها الدكتور محمود الزهار على متظاهري قطاع غزة الذين ساقهم مسلحو حركة «حماس» إلى ساحة التظاهر بالقوة المسلحة وأن يقول، أي أبو مازن، بدل الكلام المسموع القابل للإعراب: « تجوع يا سمك... وإلى المحارق يا صهاينة... وسنَّوا اضلوعي سنوها سيوف وعبَّوني... عبَّوني مولوتوف»... فهل هذا هو المطلوب؟!
* كاتب وسياسي أردني