كيف ندفع أميركا إلى الانسحاب من العراق؟!
من حسن حظنا أن استُدرجت أميركا عسكرياً إلى أرض معركة الإرهاب في الشرق الأوسط لكي تقضي عليه بقوة المال والسلاح والعلم، ولولا استدراج أميركا إلى العراق بفضل «قاعدة بن لادن» لما أمكننا اكتشاف خلايا الإرهاب العربي-الإسلامي على هذا النحو.
مكثنا أكثر من نصف قرن، ونحن العرب نُندِّد بالعدوان الإسرائيلي على فلسطين، من دون جدوى، ومن دون أن نُبعد إسرائيل قيد شعرة عن تحقيق أهدافها السياسية والتوسعية. فلم يكن تنديدنا يُجدي نفعاً.ومكثنا أكثر من نصف قرن، ونحن العرب نتوعّد إسرائيل بالثبور وعظائم الأمور حيناً، ونسالمها حيناً آخر، فلم ينفع وعيدنا لها ومسالمتها، في إلجامها عن مزيدٍ من التوسّع وبناء دولتها، على حساب الشعب الفلسطيني، وأرضه المسلوبة.ومكثنا أكثر من نصف قرن، ونحن العرب ننظمُ عظائم القصائد، وعيون البيان الخطابي، ونكتب القصص القصيرة، والروايات الطويلة عن فلسطين، وعذاب شعب فلسطين، من دون أن نحصل على ذرة تراب واحدة مما نأمل به، أو نطمح إليه.ومكثنا أكثر من نصف قرن، ونحن العرب والأحزاب والقبائل الفلسطينية والعربية نتناحر في ما بيننا على خيار الحرب والسلام، من دون أن نربحَ حرباً، أو ننالَ سلاماً.وجاءت جهودنا كلها في القضية الفلسطينية بمزيد من الخسائر لنا والأرباح لإسرائيل. فلو استعرضنا ما كان بيدنا وما كان بيد إسرائيل في عام 1948، وما أصبح بيدنا وأصبح بيد إسرائيل، لرأينا أننا خسرنا الكثير الكثير، وربحت اسرائيل الكثير الكثير بالمقابل.ليس بالهجاء وسحر البيان وحدهما ننتصرمن دون الرجوع إلى الماضي، واستعراض كل الخطوات السياسية والعسكرية الخاطئة، التي ارتكبناها خلال السعي إلى حلِّ القضية الفلسطينية حلاً عقلانياً واقعياً موضوعياً قابلاً للتنفيذ من قبل الطرفين المتخاصمين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصبح معظمنا مقتنعاً، بأن الأسلوب العاطفي السياسي المتشنج، والعنتري المجاني، والهجاء الإعلامي، ودعوة المنجمين والمشعوذين السياسيين إلى التنبؤ، واستطلاع الحُجب، وإقناع الرأي العام العربي بانهيار دولة إسرائيل القريب، وانهيار الإمبراطورية الرأسمالية الأميركية المحتوم، هو الأسلوب الذي اتُّبِع طيلة أكثر من نصف قرن، من دون أن نجلس إلى أنفسنا، ونفكر تفكيراً شجاعاً منتظماً نخرج منه بقرار شجاع وحكيم وواقعي، نتألم له ساعة، لكي نتفادى ألم كل ساعة، كما نتألم الآن وباستمرار، منذ أكثر من نصف قرن مضى.تيه القرار العربي بين النتيجة والسببمنذ أكثر من نصف قرن مضى، دارت معظم الأدبيات السياسية العربية حول مقولة واحدة أصبحت راسخة في الذاكرة السياسية العربية، وهي اننا: أولاً، ضحايا مؤامرات الدولة الأجنبية الاستعمارية. فلولا هذه المؤامرات لما كانت حالنا على ما هي عليه الآن، ولذا، فنحن نتصرف سياسياً دائماً بمنطق الضحية، وليس بمنطق سوء التقدير والتدبير.ثانياً، أننا أصبحنا مقتنعين قناعة تامة بأن احتلال فلسطين والعراق وجزء من سورية (الجولان والإسكندرون) من قبل تركيا وإسرائيل، واحتلال جزء من المغرب (سبتة ومليلة وجزيرة ليل) من قبل إسبانيا واحتلال جزء من دولة الإمارات العربية المتحدة (جزر طُنّب الكبرى وطُنّب الصغرى وأبو موسى) من قبل إيران... وكل أنواع الاحتلال الأخرى للعالم العربي هي سبب الخيبة العربية الحالية، وليست بسبب هذه الخيبة. وأن ما يجري في السياسة العالمية هو ما تقول به الأمثال السائرة العربية ومنها أن «المال السايب يُعلّم الحرامي السرقة»، وأن «الحيط الواطي منطٌّ للجميع»، وأن «من يهُن يسهُل الهوانُ عليه».. إلخ. وهو ما يعني أننا بعقولنا الخَرِقة، وبتصرفاتنا الغشيمة، جلبنا المصائب لأنفسنا.فالاستعمار العثماني الذي حلَّ بنا في بداية القرن السادس عشر 1517 لم يأتِ لولا ترحيبنا به على أبواب حلب بهواننا وفرقتنا. والاستعماران الفرنسي والبريطاني لم يكونا ليستوليا على العالم العربي غداة الحرب العالمية الأولى لولا رؤيتهما فينا مرتعاً خصباً وآمناً لخرافِهما ونعاجِهما. وإسرائيل ما كانت لتصبح بهذه القوة وبهذه السطوة لولا أنها واجهت عالماً عربياً ممزقاً وضعيفاً وكارهاً بعضه بعضاً، واحتلال العراق لم يكن له أن يقع لولا وجود صدام حسين في الحكم وفعله ما فعل طوال مدة حكمه.إذاً، ما أصابنا من ويلات وكوارث واستغلال كان من صنع أيدينا، وكان نتيجة لما نحن فيه من انحطاط وتخلف وانقسام واستغلال واستبداد... إلخ. وليس ما نحن فيه نتيجة لما أصابنا من استعمار واحتلال ونهب وسرقة لثرواتنا من قبل الاستعمار وليس من قبل الحكام كما تقول معظم الأدبيات السياسية العربية في الماضي والحاضر وما زالت تكرر هذا حتى الآن. العرب والانسحاب الأميركي من العراققلنا سابقاً إن للعراقيين والعرب مصلحة في بقاء القوات الأميركية في العراق لأسباب كثيرة منها، أن لا دولة عربية أو أوروبية قادرة على كسر شوكة الإرهاب في العالم العربي. وأن الدولة الوحيدة القادرة على ذلك هي أميركا التي استطاعت أن تحقق الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية. وبما أن ظهور الإرهاب نتيجة حتمية لما نحن فيه من عيوب ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية، ولو لم يظهر اليوم لظهر فينا غداً، فقد كان من حسن حظنا أن استُدرجت أميركا عسكرياً إلى أرض معركة الإرهاب في الشرق الأوسط لكي تقضي عليه بقوة المال والسلاح والعلم. ولولا استدراج أميركا إلى العراق بفضل «قاعدة بن لادن» (فشكراً بن لادن، كما قال له سيّد القمني في كتابه «شكراً بن لادن») لما أمكننا اكتشاف خلايا الإرهاب العربي-الإسلامي على هذا النحو. ولو بقيت أميركا تحارب الإرهاب داخل حدودها فقط، لابتلع تنين الإرهاب العربي الدول العربية القائمة الآن، وما وصلت إليه من أدنى حدود الحداثة، وأدنى بناء أساليب الحكم الديموقراطية، ولانهار هذا الشيء القليل الذي حققناه في كل المجالات بعد الاستقلال حتى الآن. ورغم أن من يتصدى للإرهاب هو القوة العظمى الوحيدة في العالم بكل إمكاناتها المختلفة فإن الإرهاب استطاع أن يصمد أكثر من أربع سنوات حتى الآن، فما بالك لو لم يكن يواجه مثل هذه القوة العظمى؟دعوة حق أريد بها باطلالعالم العربي اليوم من أدناه إلى أقصاه ينادي بضرورة انسحاب أميركا من العراق، وهي دعوة حق مشروعة ولكنها تخفي باطلاً واضحاً، وجود القوات الأميركية الآن في العراق هو ضمان القوة العسكرية الوحيدة لعدم قيام حرب أهلية في العراق بين الطائفتين الشيعية والسنيّة المتنازعتين، التي لا يحول الجيش العراقي الضعيف و«البوليس» العراقي الذي يخشى على نفسه من عدم قيام هذه الحرب. وكأن العرب بقضهم وقضيضهم يقولون لأميركا:اتركي العراق غداً لكي يُتاح له ممارسة الحرب الأهلية، التي تقفين أنتِ عائقاً أمامها بجيشك الجرار وميزانيتك المالية الضخمة وأسلحتك الفتاكة. دعي العراق وشأنه، وشأنه هنا تعني أن ينحر العراقيون بعضهم بعضاً بشكل كلي كما ينحر بعضهم بعضاً الآن بشكل جزئي.إذا كان العرب -حقاً- حريصين على الانسحاب المبكر لأميركا من العراق فطريق هذا الانسحاب معروف، وهو بكل بساطة وسذاجة أيضاً، مساعدة الدولة العراقية على بناء جيشها الوطني، وحماية حدود العراق من دخول الإرهابيين إليه، وفتح سفاراتهم في بغداد، ومدِّ يد العون الأمني والعسكري للدولة العراقية الجديدة، واعتبار الإرهاب في العراق إرهاباً للعالم العربي بأكمله. ومن دون ذلك لن تنسحب أميركا (الجمهورية أو الديموقراطية) قريباً من العراق، قبل تصفية جيوب الإرهاب فيه، وفي العالم العربي كذلك، قبل أن يصل إليها في مستقبل الأيام.* كاتب أردني