إقرار الحريات وسلطة الرقيب
غالبا ما يُعزى إصرار سلطات منطقتنا على السيطرة على الإعلام والاتصال، تحتكر وسائلهما أو تسومهما رقابة صارمة، إلى خطل في الرأي وفي السلوك يبلغ مبلغ العبث، تسلطاً فجّا بليدا لفرط مجانيّته ومجافاته لكل جدوى، واستبدادا كسولا آليا، يمعن في إعادة إنتاج عادات درج عليها، لا يسائلها ولا يعيد النظر فيها. إذ، يتساءل المتسائلون، ما معنى الرقابة على الإعلام في زمننا هذا، وقد انفتحت السماء، سيلا من الصور لا رادّ له ولا مُعيق؟ وانتشر استخدام الإنترنت في البيوت وفي المكاتب وفي الدكاكين، يخترع ألف حيلة وحيلة لإبطال استراتيجيات حجب المواقع؟ حتى الهواتف النقالة، وقد أضحت وسيلة لتداول الصور، ناهيك عن الرسائل، التحقت بمصاف وسائل الاتصال التي يعسر على الرقيب حصرها أو يتعذر.نتوقف، بادئ ذي بدء وقبل المضي خوضاً في تعليل تلك الظاهرة (نعني ظاهرة استمرار التشبث بالرقابة مع أن تطور تكنولوجيا الاتصالات يوحي بأنه قد جبّها عمليا وأبطلها)... نتوقف عند الوضع المفارق الذي نجم عنها في بلدان المنطقة، وهو ذلك الذي يمكن وصفه، إيجازا، بالقول إن المواطن، المشاهد، الفرد، مستهلك وسائل الاتصال طلبا للمعلومة أو للترفيه، سمّه ما شئت، قد انتزع حرية «التلقي»، أقله في ما يتعلق بأكثر تلك الوسائل تأثيراً وانتشاراً، أي التلفزيون الفضائي، ولكنه لايزال، في الأغلب والسائد قاعدةً، محروما من حرية «التعبير»، ما قد يستوي مفارقة عربية خالصة أو تكاد، مميّزة على الأقل.
أما الحرية الأولى، حرية «التلقي»، فقد فرضتها الجموع فرضاً، أمراً واقعاً. إذ من المعلوم أن سلطات المنطقة تصدّت في بداية الأمر للصحون اللاقطة وحاولت حظر استخدامها إذ هي قد واجهتها بتحدّ غير مسبوق: إيصال محتوى إعلامي إلى مواطني أو رعايا تلك السلطات من دون أن يكون لهذه الأخيرة من دور، كان في مضى حكراً عليها، في تولي عملية الإيصال تلك، صياغة لمحتواها أو إشرافا عليه وإذناً به. لكن المسعى ذاك مُنيَ بإخفاق ذريع، مردّه أن الصحون اللاقطة انتشرت انتشاراً جارفاً شاملاً، تعذر قمعه واستحال. وفي ذلك ما قد يجيب، بالمناسبة، عن سؤال يقض مضاجع ديموقراطيينا هو كيف السبيل إلى إقرار الحريات؟ تُقرّ عندما تصبح مطلبا عاما، غير منحصر في نخبة ضيقة، تؤدي محاولة إنكارها أو الإجهاز عليها إلى المخاطرة بمواجهة المجتمع بأسره.قل لا علينا من ذلك في هذه العجالة. ما يهمنا هنا أن الجموع التي فرضت «حرية التلقي»، على نحو ما وصفنا، بمجرد الإقبال على ممارسة تلك الحرية، فانتقلت بذلك بالإعلام من طور إلى طور، بل من عصر إلى عصر، لم تبد اكتراثا بـ«حرية التعبير» فلم تطلبها ولم تسع إليها. قد يلوح الأمر هذا تناقضا، ولكنه لا يعدو أن يكون تناقضا ظاهريا لدى التمعن فيه وعند تبيّن تمييزٍ قد يكون دقيقاً ولكنه بالغ الأهمية، هو الذي مفاده أن طالب «حرية التلقي» وطالب «حرية التعبير»، لا يتطابقان بالضرورة، أقله في مجتمعاتنا، وأن هذا غير ذاك: الأول مستهلك، وهذا أضحى موجوداً، ذاتا فاعلة في مجتمعاتنا، والثاني مواطن، وهذا لم يوجد بعد. لا يمكن فهم الدور الذي لايزال يضطلع به الرقيب في بلداننا، إلا بإجراء ذلك التمييز واتخاذه منطلقا. غير أن ملاحظة ذلك لا تفي، إذ إنها لا تغني عن التساؤل حول آلية فعل وفاعلية الرقيب في زمن انفتاح الفضاء. فهو فقد صلاحية التحكم في المعلومة الوافدة من الخارج، ولكنه أبقى على سيطرته على تداول المعلومات في الداخل سيطرة كاملة، ما يمكنه حتى من تحييد وسائل الإعلام الخارجية أومن إبطال مفعولها، من خلال حرمانها من مصادر الأخبار مثلا وملاحقة من يتعاملون معها من المحليين... إلى وسائل أخرى متعددة.لكن الأمر الذي يلعب أكثر من غيره لفائدة الرقيب هو ذلك المبدأ المسمى في صناعة الإعلام باسم «مبدأ القرب»، ذلك الذي يجعل القارئ أو المشاهد أكثر اهتماما بما يجري من حوله في مجاله المباشر وفي ما يخص مناحي حياته في أكثر تجلياتها خصوصية ومحلّية. ذلك المبدأ هو الذي يجعل مثلا من صحف المناطق، الصادرة في بعض المقاطعات أكثر رواجا وأوفر عدد قرّاء من صحف «وطنية» مرموقة صيتها في الخارج أكبر بكثير من صيتها في الداخل، على ما تدل التجربة الأوروبية.«مبدأ القرب» ذاك هو السلاح الذي لايزال بالغ المضاء في يد الرقيب، فهو يمكنه من التحكم في ما ينشر ويذاع محلّيا، والذي لا تهتم به وسائل الاتصال الوافدة لفرط محليته، إذ لا يصل خبر من أخبار بلد بعينه إلى وسائل الإعلام العالمية، وفي عدادها الفضائيات العربية الكبرى، إلا إن أصاب قدرا كبيراً من الأهمية أو الخطورة، وذلك نادر في الغالب... لذلك، فإن الفضائيات تلك لا يمكنها اعتماد «مبدأ القرب» إلا على نحو وجداني وعندما يتعلق الأمر بفورات التعاطف الشعبي الكبرى العابرة للأقطار (فلسطين أو العراق وما كان في مصافهما بهذا المقدار أو ذاك)، وهي لذلك لا تنال إلا قليلا من سطوة ودور الإعلام المحلي الخاضع والمدجّن.لكل ذلك، ربما أمكننا أن نتوقع، آسفين، أن للرقيب عمراً طويلاً في ربوعنا...* كاتب تونسي