الحرية والموسيقى
ظل شعب كوريا الشمالي لأكثر من نصف قرن من الزمان محروماً من أي شكل من أشكال الفنون، أو الفكر، أو الموسيقى التي لا تسمح بها الدولة. فقد أوهمت السلطة الشعب أن كوريا الشمالية بلد صغير بطل يحاصره أعداء شيطانيون، تتزعمهم الولايات المتحدة. ولقد أدت هذه الجرعة الدائمة من جنون الشك والاضطهاد إلى تحويل البلاد إلى ما يشبه مأوى للمرضى العقليين.
إن كوريا الشمالية، المعروفة رسمياً بجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، تضم في الحقيقة واحدة من أشد الديكتاتوريات استبداداً وانغلاقاً ووحشية في العالم. بل وربما تشكل المثال الأخير الحي للحكم الاستبدادي المحض- الذي يتلخص في سيطرة الدولة على كافة جوانب الحياة البشرية. هل يصلح مكاناً بهذا الوصف كمسرح لأوركسترا غربية؟ وهل كان لأحد أن يتخيل أوركسترا نيويورك الفلهارمونية، التي حظيت بتهليل وهتاف عظيمين في بيونج يانج، وهي تقدم فنها أمام ستالين أو هتلر؟إن الأنظمة الشمولية تشترك جميعها في أمر واحد: فهي بسحق أشكال التعبير السياسي كافة باستثناء مداهنة وتملق النظام، تحول كل شيء إلى سياسة. ففي كوريا الشمالية لن نجد ما نستطيع أن نطلق عليه رياضة غير سياسية أو ثقافة غير سياسية. وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن دعوة أوركسترا نيويورك الفلهارمونية كان المقصود منها تلميع وصقل سمعة النظام الذي يتربع على عرشه القائد العزيز كيم جونج إل، الذي هبطت أسهمه بشدة- حتى في الصين المجاورة- إلى الحد الذي يجعله في حاجة إلى التلميع كله الذي يستطيع أن يحصل عليه.
كشفت بعض اللقاءات التي أجريت مع الموسيقيين عن إدراكهم لهذه الحقيقة. قالت إحدى عازفات الفيولين (الكمان): «أن أغلبنا لا يصدقون هذه الدعاية الحزبية التي تقول إن الموسيقى تسمو فوق السياسة». فهي كانت على يقين من أن الحفل الموسيقي «سوف يستغل من قِـبَل بيونج يانج ومن جانب حكومتنا ذاتها في محاولة لتوضيح بعض النقاط السياسية». أما قائد الأوركسترا، لورين ماتزيل، الذي اختار للحفل برنامجاً تألف من أعمال لفاجنر، ودفورجاك، وجيرشوين، وبيرنشتاين، فكان أقل تشاؤماً وتشككاً، فقال: «إن هذا الحفل الموسيقي يستعين بقوة دافعة خاصة به»، وأكد أنه ذو تأثير إيجابي على المجتمع في كوريا الشمالية.حسناً، بوسعه أن يقول هذا، ولكن هل يكون على حق في مقولته هذه؟ لا أحد، ولا حتى ماتزيل، قد يدعي أن حفلاً موسيقياً واحداً تقدمه أوركسترا غربية عظيمة قادر على الإطاحة بنظام حكم ديكتاتوري، إلا أن انتباه الأنظمة الشمولية إلى القوة الثورية التي تتمتع بها الموسيقى يرجع إلى جمهورية أفلاطون. إذ يرى أفلاطون أن الموسيقى إن لم تخضع للسيطرة الصارمة، قادرة على إلهاب مشاعر الإنسان وجعله أصعب مراساً. وكان يريد أن يحصر التعبير الموسيقي في الأصوات المفضية إلى التناغم والنظام.وكان هذا هو الخط الذي سارت عليه النظم الاستبدادية على نحو أو آخر. فالوجبة الموسيقية الرسمية الموصفة للشعب في كوريا الشمالية تتألف من الأناشيد الوطنية التي تمجد الحزب الشيوعي، والقصائد الغنائية التي تترنم بِـ»القائد العزيز» ووالده «القائد العظيم» كيم إل سونج، والروح البطولية للشعب الكوري. ويكاد يكون كل شيء عدا ذلك غير مسموح به- إلا في الحرم الداخلي للحكام. ويقال إن ولد القائد العزيز كيم جونج تشول من المعجبين بالمغني إيريك كلابتون. ولقد تم توجيه الدعوة بالفعل إلى نجم الروك البريطاني للأداء في كوريا الشمالية. وإنه لشيء جديد حقاً.كانت موسيقى الروك محظورة في البلدان التي حكمتها أنظمة شيوعية دكتاتورية، تماماً كما كانت موسيقى الجاز محظورة في ألمانيا النازية، لكل الأسباب التي ذكرها أفلاطون: حيث كانت المشاعر التي لا يمكن التحكم فيها تشكل تهديداً للنظام الكامل للدولة. ولهذا السبب بالتحديد، اكتسبت الموسيقى «المحرمة» صبغة سياسية. وكان الشباب المنشقون في ألمانيا تحت حكم هتلر يستمعون إلى موسيقى الجاز سراً.في عام 1968 كانت الأجواء في تشيكوسلوفاكيا مشحونة بالأصوات المستوردة، مثل الرولينغ ستونز، وفرانك زابا. وبعد أن أنهت الدبابات السوفييتية الفترة التي أطلق عليها «ربيع براغ»، هدد رجل شرطة روسي أحد الشباب التشيكيين بأنه سوف يضربه حتى تخرج موسيقى زابا من جسده. كان فاسلاف هافيل من المعجبين بزابا. وكذلك كانت فرقة الروك التشيكية التي كانت تسمى «أهل الكون البلاستيكيون» (Plastic People of the Universe)، والتي أزعجت موسيقاها المسؤولين في الحزب الشيوعي إلى الحد الذي جعلهم يلقون بأعضائها وراء قضبان السجون- ليس لأنهم كانوا يمارسون أنشطة سياسية، ولكن لأنهم، كما قال مغنيهم ميلان لافسا: «كنا فقط نريد أن نفعل ما نحب».وبالطبع، كان هذا هو بيت القصيد. إذ أن لافسا والمعجبين به من ذوي الشعور الطويلة، والذين احتفى بهم توم ستوبارد في مسرحيته الرائعة «روك آند رول»، كانوا لا يريدون أن يفسد عليهم النظام حفلهم، ولم يبالوا برأي مسؤولي الحزب الشيوعي. بل كانوا يريدون أن يرقصوا على أنغامهم فحسب.من الواضح أن موسيقى دفورجاك أو فاجنر ليست كموسيقى زابا أو الرولينغ ستونز. وإذا ما ذهب كلابتون إلى بيونج يانج كضيف من ضيوف الحكومة فقد لا يكون لديه من الزخم الشعبي ما يكفي لإشعال فتيل التمرد والثورة. وحتى حين غنى فريق الرولينغ ستونز أخيراً في الصين في العام 2003، وافق أعضاؤه على استبعاد بعض النمر «غير اللائقة» من برنامجهم، لأنههم كما قال الراعي المحلي لحفلهم: «كانوا يدركون الفوارق بين الثقافتين الصينية والغربية. وهم لا يريدون أن يفعلوا أي شيء ضد الحكومة الصينية». واحسرتاه على روح العام 1968.إلا أن ماتزيل ربما كان مصيباً في رأيه. فربما كان لتقديم الموسيقى الجيدة في كوريا الشمالية أثر إيجابي. إذ إن إمبراطورية ستالين لم تكن في حاجة إلى فرق أوركسترالية غربية. فقد كان لديها ما يكفي من الفرق الأوركسترالية. والصين أيضاً لم تعد في حاجة إلى الرولينغ ستونز. فاليوم هناك العديد من فرق الروك في الصين. ولكن القبضة الخانقة التي يفرضها النظام الدكتاتوري على كوريا الشمالية تعتمد على العزلة الشاملة.ظل شعب كوريا الشمالي لأكثر من نصف قرن من الزمان محروماً من أي شكل من أشكال الفنون، أو الفكر، أو الموسيقى التي لا تسمح بها الدولة. فقد أوهمت السلطة الشعب أن كوريا الشمالية بلد صغير بطل يحاصره أعداء شيطانيون، تتزعمهم الولايات المتحدة. ولقد أدت هذه الجرعة الدائمة من جنون الشك والاضطهاد إلى تحويل البلاد إلى ما يشبه مأوى للمرضى العقليين، حيث الحكم للجهل والرعب والشك.في ظل ظروف خانقة كهذه، كان حتى البرنامج التقليدي الذي قدمته أوركسترا نيويورك الفلهارمونية من الموسيقى الكلاسيكية بمنزلة نسمة من الهواء العليل. وقد لا تطيح مثل هذه النسمة بالنظام الديكتاتوري، إلا أنها تقدم بعض العزاء لهؤلاء الذين أجبروا على الحياة تحت ظله. وهذا في الوقت الحالي يشكل سبباً وجيهاً للمسارعة إلى تلبية مثل هذه الدعوات.* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ حقوق الإنسان بكلية «بارد»«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»