طبيب بدون مستشفى!!
إن طريق حل قضية البدون سهل وواضح وسالك، كما أنه يخدم أمن البلاد واقتصادها ومعاشها وقيمها، وهو الإنهاء الفوري لسياسة التضييق التي تكاد تصبح سياسة للتمييز العنصري.
لست من أولئك الذين ينظرون للجدل الدائر حول ملف التجنيس بصورة تشاؤمية، فملف التجنيس يعني ضمن ما يعنيه مكونات بنية الدولة، وهو ملف مثخن بالجراح ومليء باللف كما هو مليء بالدوران. وبغض النظر عن العبارات الجارحة، بل والمؤلمة، المستخدمة في إطار ذلك الجدل، فإنها في محصلة الأمر لابد منها لأنها قد تنفض شيئاً من الغبار المتراكم لعل في نفضه يستعيد الوطن شيئاً من عافيته واعتلال صحته.بالتأكيد أنه لا يوجد كويتي واحد يدعو لتجنيس من هو غير مستحق، ولكن من هو المستحق؟ وكيف يتم تحديد معايير الاستحقاق تلك؟ وكيف لنا حتى لو تم تحديد معايير الاستحقاق أن نضمن حصافة وكفاءة التنفيذ؟كيف لنا مثلاً أن نحدد معيار الولاء؟ والولاء هو معيار ظني لا ضوابط له محددة، وهو كالصدق أو الشهامة أو النخوة أو الاخلاص أو ربما الحب حتى. إحدى وسائل التحقق من تلك الصفات تكون من خلال مقياس الأفعال وليس مقياس الأقوال؛ أو ليس الإيمان مثلاً هو «ما وقر في القلب وصدقه العمل»؟ وبالتالي فإن الذين استشهدوا دفاعاً عن الوطن أو تأدية للواجب هم من أولئك الذين صدقت أفعالهم قناعاتهم، وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين لبوا نداء الواجب يوم الغزو ورابطوا في وحداتهم العسكرية ورفعوا السلاح في وجه الغزاة حتى تم أسرهم وأفرج عنهم لاحقاً. ومع ذلك فإن بعضنا لا يرى في مثل هذه الأفعال أية دلالة، وهكذا بات على أولئك المتشددين أن يأتونا بمعايير نفهمها حتى نصل إلى صورة واضحة.. ومع ذلك فإن العديد من أولئك لم يتم تجنيسهم.. وبالتأكيد فإن صياغة المعايير عليها أن تخرج من هذين المثالين وتتحول إلى حزمة قانونية متكاملة شاملة.وفي الإطار العام للتجنيس تأتي قضية البدون كموضوع فرعي وليس كلياً، ففتح الجدل والنقاش حول موضوع التجنيس لا يعني بالضرورة موضوع البدون؛ فموضوع التجنيس أكثر شمولية ويتطلب من الجميع أن يحددوا النظام وأسلوب التنفيذ وآلية الرقابة عليه. وحيث إن لقضية البدون علاقة وطيدة بعملية التجنيس فليس كل من يتم تجنيسه هو من البدون، بات لزاماً توضيح بعض الأخطاء التي وردت في بعض التناول والمعالجة فقد ذُكر مثلاً أن البدون هم الذين جاؤوا بعد الغزو ويريدون الحصول على الجنسية، وهو كلام لا أساس له من الصحة. فلو كانت مشكلتنا في موضوع البدون هي في مَن جاء إلى الكويت بعد الغزو، فإنها ستكون مشكلة سهلة الحل بالتأكيد ولكننا نتحدث عن أشخاص موجودين منذ الخمسينيات والستينيات وغيرها وكثير منهم لديهم أقارب كويتيون من الدرجة الأولى، أما الخطأ الآخر فهو التلاعب بالأرقام والقول مثلاً إن البدون كانوا قبل الغزو قد بلغ عددهم 290 ألفاً وأنه بسبب سياسة الحكومة المتشددة فإن 170 ألفاً قد أبرزوا هوياتهم الأصلية وانخفض العدد إلى 120 ألفاً، وهو كلام أيضا عار عن الصحة، فالسبب الأكبر والأهم في انخفاض العدد جاء نتيجة الغزو، وخروج العدد الأكبر من الكويت، وتجنيس البعض، وهجرة البعض، وإظهار الهويات الأصلية قلة قليلة، وشراء هويات مزورة للبعض. فهي أسباب متعددة أقلها أهمية كان السياسة المتشددة.إن أخطر ما في قضية البدون هو محاولة تبسيطها وتحويلها إلى أنها مجرد مجموعة من البشر أخفوا جوازاتهم الأصلية وعليهم إبرازها... وإلا فإنه الويل والثبور وعظائم الأمور، وإلا فانه محكوم عليك بعدم الحياة فلا شهادة ميلاد ومحكوم عليك بعدم الموت فلا شهادة وفاة.إن طريق الحل سهل وواضح وسالك، كما أنه يخدم أمن البلاد واقتصادها ومعاشها وقيمها، وهو الإنهاء الفوري لسياسة التضييق التي تكاد تصبح - إن لم تكن قد أصبحت فعلاً - سياسة للتمييز العنصري. والقيام بتجنيس المستحقين فوراً ودون تردد ومنح البقية ممن تنطبق عليهم الشروط ما يشبه «الغرين كارد» والنظر تدريجياً في أمرهم.ولعلي هنا أقتطع رسالة وصلتني في بريدي من طبيب بدون وقع باسم «طيب بلا مستشفى». يقول الدكتور نايف بعد اقتطاع عبارات المديح:«يا سيدي الكريم إن البدون في وضع مأساوي أتمنى أن يلتفت إليه أصحاب القرار في البلد، صدقني يا سيدي الكريم هم لا يطلبون الكثير بل يطلبون (برودة القاع فقط) لا يريدون السيارات الفارهة ولا القصور الكبيرة ولا المظاهر الخداعة، إنهم فقط يريدون الاستقرار والعيش بأمان وكرامة، أتمنى أن تقر الحقوق المدنية للبدون على الأقل من طبابة وتعليم ورخص قيادة وغيره ثم يلتفت بعدها إلى التجنيس...».فلنبدأ بالحل بجدية حرصاً على مصلحة البلد، أما من يراهن على الزمن، فاستمرار القضية لن يأتي إلا بمزيد من المآسي وهي مآسي لن تستثني أحداً.