كان حرص قادة الخليج منذ البداية الأولى على «التكامل الاقتصادي» هو الهدف الأكبر، انطلاقا من إدراكهم أن التعاون أساسه «اقتصاد» وهو الذي يوحّد الشعوب، ولذلك تبّنى القادة جميعاً في القمة التأسيسية «الوثيقة الاقتصادية» التي قدّمها وفد الكويت.أوشك العام على الرحيل، وقد كان عاماً ثقيل الخطى، مثقلاً بأزمات ومواجع وأحداث متباينة، ولكنه لم يخل من أمور إيجابية، ها نحن نودع عاماً ونستقبل عاماً جديداً ينوء بأعباء ما ورثه من العام الحالي، هناك قضايا كثيرة مازالت معلقة لعل أهمها وأخطرها، الشرخ الفلسطيني العميق الذي تسببت فيه «حماس» بانقلابها الدموي على الشرعية الفلسطينية واستيلائها على «غزة» وهناك ملف الرئاسة اللبنانية الذي دخل في مسلسل التأجيلات ومازالت العمليات الإرهابية تنهش في الجسد العربي، وكان آخرها التفجيرين الانتحاريين في الجزائر وخلّفا أكثر من 37 قتيلا، أما الوضع العراقي وإن كان مبشراً بانخفاض مستوى العنف فيه وصحوة العشائر ضد أعمال القاعدة الإرهابية إلا أن البؤر والجيوب الإرهابية مازالت تستنزف الجسم العراقي وتحصد الضحايا الأبرياء، هذا على المستوى العربي العام، فماذا عن الوضع الخليجي؟
هناك قلق خليجي عميق من مخاطر البرنامج النووي الإيراني وهو إن ظهر -أحيانا- على لسان المسؤولين الخليجيين بين الحين والآخر إلا إنه وبشكل عام يظل حديثا خافتا معلقا بالمجهول يدور في الأوساط المجتمعية المختلفة، هناك قلق أعظم من التمدد الإيراني المتزايد في الخليج وفي العراق بشكل خاص وفي المنطقة العربية، حيث بؤر التوتر في لبنان وفلسطين واليمن، بل حتى الصومال، إذ تجد في كل واد أثراً من ثعلبة -حسب المثل العربي المعروف- تراهن إيران على بث «الفوضى» في المنطقة، حلاً لأزماتها مع العالم ولكن مع هذه الصورة السوداوية التي تعم المنطقة فإن «الخليج» وبالرغم من كل مظاهر القلق هو الأكثر إشراقا في الساحة العربية والإسلامية والأعظم ازدهاراً وحيوية.
انظر إلى المشهد الخليجي مقارنة بالمشهد العربي تجد الخليج حلم كل عربي، الخليج اليوم ينعم بازدهار اقتصادي لا سابق له، تنمية شاملة ونهضة عمرانية ومناخ سياسي مستقر وآمن واستثمارات عالمية تتدفق وخدمات تعليمية وصحية واجتماعية مكفولة، لازوار فجر يطرقون بابك ليأخذوك من حضن العائلة إلى غياهب المجهول، ولاسيارات مفخخة تنفجر بالآمنين، ولارصاصة طائشة تصيب الغافلين، الخليج اليوم هو الصورة المشرقة والمضيئة وسط عالم عربي يكاد يسوده الظلام، وهو الجزء السليم الصحي في الجسم العربي حسب تعبير عبدالله بشارة أول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي.
كيف تحقق ذلك؟ وكيف أمكن لحكام الخليج قيادة سفينة التعاون في بحر لجي متلاطم ووسط رياح هوجاء عاصفة إلى شاطئ الأمان؟ وما الذي تحقق بين آخر قمة خليجية عقدت في الدوحة وسميت قمة «التحدي والإنجاز» وأول قمة عقدت في «أبوظبي» قبل «26» عاما في مايو 1981 حيث استضاف المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إخوانه قادة الدول الخليجية وترأس الاجتماع التاريخي الذي انبثق عنه مجلس التعاون الخليجي؟
إنها فرصة مناسبة لتنشيط الذاكرة الخليجية باستدعاء ظروف نشأة مجلس التعاون والدوافع التي حكمت تأسيسه، ولا نجد خيرا من السِّفر الوثائقي الممتع لعبدالله بشارة يوضح لنا هذا الموضوع.
يكشف عبدالله بشارة أهم دوافع تأسيس مجلس التعاون ويلخصها في الآتي:
1 - بروز الدور العراقي بعد تراجع الدور المصري والكفاءة بدءاً من كامب ديفيد 1978 واهتزاز النظام العربي ليشكل العراق دوراً استفزازياً لدول الخليج ولينشط حركات المعارضة اليسارية والقومية والبعثية في المنطقة، وقد صوّر بشارة هذا الدور؟
أبلغ تصوير في أجواء مؤتمر بغداد عام 1980 حيث وصل الاستفزاز العراقي للخليج إلى قمته مما شكل تهديداً صريحا للخليج، يقول بشارة في كتابه الوثائقي: «يوميات الأمين العام لمجلس التعاون عبدالله بشارة بين الملوك والشيوخ والسلاطين»: «بعد توقيع السلام المصري الاسرائيلي، تبنى العراق موقفاً حاداً من القاهرة توج في قمة عربية طارئة في بغداد، جمد فيها عضوية مصر، ونقل مقر الجامعة إلى تونس، وشهدت قمة بغداد أجواء كريهة موجهة ضد دول الخليج لدفعها نحو قبول القرارات التي تريدها بغداد، وتعرضت الوفود الخليجية لمعاملة سيئة فيها ترهيب وتهديد وأرسلت إلى غرفهم أوراق تحمل عبارات الانتقام في حالة التساهل، وتبنت المجموعة المتطرفة من الوفود العراقية والسورية والفلسطينية والليبية أساليب الابتزاز مما دفع الوفد العماني إلى إلغاء مشاركته، وسيطرت على المؤتمر عمليات التجسس والملاحقة دون اعتبار لكرامة قادة هذه الدول ومكانتهم»، ثم يضيف قائلا: «وأعتقد أن المبادرة بالتوجه نحو قيام كيان خليجي واحد، يوفر لدول الخليج اتخاذ مواقف موحدة جاءت من استياء تولد مع قادة الخليج من الأساليب غير المعتادة وغير الأخلاقية التي اتبعتها عواصم الحدة لتأمين الموافقة الخليجية على البرنامج الذي وضعته بغداد ضد مصر».
2 - سقوط نظام الشاه وتفرغ إيران لسياسة تصدير الثورة ونقل المفاهيم الأيديولوجية والتحريضية إلى البحرين والسعودية.
3 - التمرد الظفاري اليساري المدعوم من التحالف الثلاثي: اليمن، ليبيا، أثيوبيا.
4 - إحاطة دول التعاون بتحالفات أيدلويوجية معادية من الشرق والغرب والجنوب.
5 - الحرب العراقية الإيرانية 1980 وتداعياتها على أمن الخليج واستقراره بل التأثير على الحدود الجغرافية المتوارثة لدول المجلس.
6 - التبدلات التي شهدتها الساحة الدولية إثر غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان وتأكيد النزعة التوسعية التي تتحكم في أيديولوجية موسكو وتأثيراتها على الخليج.
وعودة إلى السؤال ما الذي حققته مسيرة التعاون الخليجي عبر 26عاماً للمواطن الخليجي؟ في تصوري أن الإنجاز الأعظم للمجلس وهو ما يغفله كثيرون وقد ذكره عبدالله بشارة في مقالة بمجلة العربي الكويتية بمناسبة مرور ربع قرن على مسيرة المجلس يتمثل في:
1 - ترسيخ النظام الأمني الاستراتيجي في الخليج كما وضع منذ بداية القرن الماضي ومعارضة العبث به وتصميم دول الخليج على الالتزام به والدفاع عنه.
2 - توسيع نهج الاعتدال وبذر الروح التسامحية في السلوكيات الدبلوماسية وإبعاد الإيديولوجيات في السلوك الدبلوماسي واتباع البراغماتية في التعامل الخارجي.
3 - الترابط الاستراتيجي الذي شيدته دول المجلس مع أعضاء الأسرة العالمية وارتفاع الاهتمام العالمي بالشأن الخليجي وتعميق مفاهيم التبادلية في المصالح وتعظيم التواصل مع العواصم المؤثرة لإيجاد حلول مناسبة للقضايا العالقة: فلسطين، العراق، الإرهاب، التنمية.
4 - بدء منظومة اقتصادية خليجية عربية للتنمية، عبر المساعدات وصناديق التنمية، أمنت وصول الدعم الخليجي إلى الدول العربية وأتاحت مشاركة عربية في خيرات النفط الخليجي، ويمكن القول إن هذا الإنجاز هو المظهر الجدي الوحيد الذي تحقق من مظاهر الوحدة العربية.
5 - ترسيخ الحدود القائمة بين إيران والعراق من دون تبديل وتأكيد أهمية بقاء نظام الأمن الإقليمي من دون تغيير.
هذه الأمور الخمسة تمثل في تصوري الإنجاز الأعظم للعمل الخليجي المشترك، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا التعاون المشترك، وقد أثمر في النهاية بقاء الجسم الخليجي كيانا صحيا سليما محصنا تجاه غزو ثلاثة فيروسات قاتلة ومدمرة ككيان المجتمعات وهي: فيروس الإيدلويوجية الثورية العربية، وفيروس الإيديولوجية الشيوعية، وفيروس إيديولوجية الإسلام السياسي.
لقد نجحت المجموعة الخليجية في تقديم صيغة أو نموذج حضاري عربي معاصر ومنفتح على العالم يرتبط بعلاقات استراتيجية بقوى كبرى ويحقق مصالح متبادلة، ومن دون تفريط في السيادة وإداراته أو الثوابت الوطنية والدينية أو المساس بالهوية العربية، وهذه الصيغة تقوم في شقيها الخارجي على «الواقعية العقلانية» وفي شقها الداخلي على «الثقة والمصداقية والكرامة الانسانية».
وحتى ندرك أهمية هذه الصيغة الفريدة في الحياة السياسية العربية لنقارنها بمنهج أو صيغة أخرى ورثها العرب من مخلفات المد الثوري العروبي والاشتراكي والتي ترجع بداياتها إلى شعارات وأدبيات التيارات القومية والاشتراكية إبان ستينيات القرن الماضي، التي قادت العرب إلى سلسلة من الهزائم المنكرة وأذلت مجتمعات وشعوبا كانت ناهضة ومزدهرة، وأهدرت الثروات والموارد وسحقت الإنسان العربي، ومزقّت نفسية وقضت على المروءات والقيم النبيلة والأصيلة في الإنسان العربي، تلك الشعارات والطروحات الغوغائية التي ضيعت فلسطين في سلسلة من الفرص الفاشلة عبر اللاءات الخائبة وسياسة المناطحة أو العنتريات والمكابرة والصدام العقيم لأجل هدف واحد لا غير خداع الجماهير لاستمرار التسلّط والفساد بحجة «المقاومة» و«الممانعة».
الآن ما الذي استفاده المواطن الخليجي على المتسوى الشخصي من مجلس التعاون؟
لقد كان حرص القادة ومنذ البداية الأولى المبكرة على «التكامل الاقتصادي» الهدف الأكبر، انطلاقا من إدراكهم أن التعاون أساسه «اقتصاد» وهو الذي يوحّد الشعوب، ولذلك تبّنى القادة جميعاً في القمة التأسيسية «الوثيقة الاقتصادية» التي قدّمها وفد الكويت دون «الوثيقة الأمنية» التي قدمتها عُمان، ولذلك صدر البيان الأول وفيه دعوة إلى وزارة المالية للاجتماع لصياغة اتفاقية اقتصادية موحّدة تحل محل الاتفاقيات الثنائية المعقودة، وركّز البيان على العمل على تحقيق أهداف المجلس في الوصول إلى الوحدة الخليجية بواسطة التعاون الاقتصادي والانتفاح التجاري.. ولكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا غلب الطابع الأمني والدفاعي على أعمال وأجندة المجلس وقمته؟
سبب ذلك تداعيات حرب الخليج الأولى التي استمرت طويلا، إذ وجدت دول الخليج نفسها وسط مخاطر تكاد تعصف بوجودها، فهنا كإيديولوجيات متصارعة ومعادية لها جميعا، وهناك سياسة تصدير الثورة ولذلك فرض «الأمن» نفسه بقوة واستأثر بجهود المجلس، ولم يكن المجلس يفرغ من تداعيات وذيول الحرب الأولى حتى انشغل بالخطر الصدامي الهمجي على الكويت، وحتى بعد طرده -ذليلا ومحاصرا - إلا أن الخليج كان قلقا متوجسا، إذ لا يؤمن مثل هذا الجار السوء جانبه حتى إذا أزيل النظام القمعي، حينئذ تنفس الخليج الصعداء، واستعاد الجانب الاقتصادي وضعه الطبيعي في مسيرة المجلس، وبدأت الإنجازات تتوالى، وكان آخرها تحقيق «الاتحاد الجمركي» الذي أعلن يناير 2003، وتحد ذلك معوقات كثيرة أمام تنقل المواطنين بين أقطار المجلس بالبطاقة الشخصية وفي نقل السلع والبضائع أو التبادل التجاري، وهناك مشاريع لم يتم الانتهاء منها مثل «الاتحاد النقدي» ومشاريع التكامل في مجال البنية الأساسية، وقد تم تنفيذ المرحلة الأولى في مشروع الربط الكهربائي وهناك مشروع البطاقة الذكية، ومشروع السكة الحديدية لربط دول المجلس.
يتبع * كاتب قطري