القراءة مفتاح لاكتشاف المعارف المطمورة.. وللسؤال العطشان على ضفاف الحيرة.. وكل ما هو ملتبس فينا..

Ad

كل ماهو ضائع مني تأتي به الكتب.. وماهو موجود وغاطس في حيرته تفك أسراره القراءة؛ لذا أجدني ألهث بين الحروف.. لا لكي انضدها ولكن كي انضدني، وعند اكتمالها أجدني.. أو على الأقل أجد ما هو هارب مني. كل قرءاة هي اكتمال لجزء ناقص.. لشيء مفقود.. لنصف يبحث عن كله.. لهلال يحلم بقمره.

ما سبق هو افتتاح لما سيأتي.. للمرآة التي نرى صورتنا فيها.. كثيراً ما حيرتني الأسئلة ولن أجد الراحة إلا بالتحامي بالأجوبة. ومنها حيرتي في جوعي الغير مفهوم، الجوع بالمطلق، كتبته ولم أتخلص منه، في إحدى قصائدي كتبت «ليتني أعرف مقر هذا الجوع الدائم.. لأرسم له فماً وأطعمه».. وبقي هذا الجوع يؤرقني واكتشفته أكثر حين قرأت «بيوغرافيا الجوع» من تأليف الكاتبة النرويجية «آميلي نوثومب» التي كتبت عن جوعها وكشفت عن كل صوره، التي عبرتها وخبرتها، ومنها انتبهت لأهمية الجوع ودوره العجيب في صنع كل هذه الحضارة. وفي كل ما عمّره وخلقه الإنسان، «وبدأت كتابها انطلاقا من أرخبيل أوقياني يُدعى فانواتو.. وهي جزر لم تعرف الجوع يوماً لما ملكته من الوفرة الغذائية والانعزال مما جعلها تنعم برتابة لافتة، ولا تثير اهتمام احد من الناس.. لأنهم لم يجوعوا في يوم من الأيام، ولم يوقظ الجوع ملكاتهم.

انتفاء الجوع مأساة لم يتطرق إليها أحد من قبل؛ لذا أهل «فانواتو» مسالمون جدا، كأن السأم مقيم في أنفسهم، كأنهم لا يكترثون بأي شيء، حياتهم كثيرا ما كانت نزهة مستمرة. يُعوزها السعي.

المجاعة تولد الروابط والصلات، وهي مادة لحكايات تُروى.

زعيمة البطون الخاوية من دون منازع هي الصين، لذا نجد هذا القدر من رهافة الذوق في فن الطبخ لديهم.. هل من حضارة تفوق الحضارة الصينية تألقاً ومهارة؟ الانكباب على دراسة الصين هو انكباب على دراسة الذكاء مجسداً. كل أمة هي معادلة متحورة حول الجوع.

هل يوجد جوع هو فقط جوع البطن وليس مؤشراً على جوع أعم؟

فالجوع يعني تلك الحاجة الفظيعة التي تمس الكائن كلّه، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق لا إلى الامتلاء الطوباوي بل إلى تلك الحقيقة البسيطة: فحيث لا يوجد شيء، أتطلع لأن يكون ثمة شيء.

في الجوع ثمة ديناميكية تحول دون قبول المرء الجائع بحاله. إنه فعل إرادة ليس في طاقة احد احتماله. هذا الذي يشق الصدر ويُفرغ النفس من جوهرها، هذا الجوع هو السلم المفضي إلى الحب، ذلك أن كبار العشاق تدرجوا في مدرسة الجوع.

الكائنات التي تولد شبعانة، التي تعرف يوماً ذلك القلق الدائم، ذلك الانتظار المحير، تلك العصبية، ذاك الشقاء الذي يؤرق ليل نهار.

وإذا كان نيتشه يتحدث عن الإنسان الخارق، فأنا أجيز لنفسي الكلام على الجوع الخارق.

لم يكن الجوع الخارق يعني إمكان الفوز بالمزيد من اللذة، بل امتلاك مبدأ المتعة نفسه، وهو اللامنتهي.

ولعل اكتشاف هذا الضحل في أعماقي هو ما حباني بذاك الظمأ المستديم، كان الله كامناً في كل ما يعاني الظمأ الدائم إلى الينبوع، ذلك التوق المحموم المستجاب ألف مرة، المفعم حتى الوجد الذي لا ينضب والذي على الرغم من ذلك، لا يرتوي، معجزة التوق الكامن في المتعة الكامنة».