إن علاقة الإنسان بالدولة أكثر تعقيداً مما يتخيل الكثيرون، فمن أجل العيش في أمان واستقرار كان على الإنسان التنازل عن جزء من حريته الشخصية لمصلحة سلطة أعلى كي يستخدم ذلك الهامش لتنظيم حياة الجماعة، فالفرد حرّ حرية مطلقة إن قرر العيش لوحده في فضاء خاص به بعيداً عن الآخرين، أما إن قرر العيش مع الجماعة فلابد من تنازلات عن هامش من حريته لمصلحة الجماعة، ويضيق هذا الهامش ويتسع بحسب متطلبات هذه الجماعة وتعقيدات الحياة أو بحسب ديموقراطية أو تسلطية النظام العام.
وفي ضوء تطور المجتمعات البشرية أصبح التنازل الفردي عن هامش الحرية يصب لمصلحة الحكومة التي أنيط بها تنظيم علاقات الناس، بما في ذلك الفصل في النزاعات التي تنشب بينهم، وهو ما عرف بعد تشكيل السلطات الثلاث في ما بعد بالسلطة القضائية.فالإنسان يتنازل عن ذلك الهامش كي تقوم السلطة التشريعية بسن القوانين ثم تقوم السلطة التنفيذية بتطبيقها على الجميع، لكنها إن وجدت من يخالف هذه القوانين أحالته إلى القضاء كي يقتص للمجتمع بأكمله أو لمن وقع عليه أثر من جراء تلك المخالفة، والقضاء يحاسب ويحكم بحسب القوانين وفي حدودها.وبعد تشعّب العمل القضائي وتشابك حياة الناس مع تطوّر المجتمع، كان لابد من إعادة النظر في التشريعات كي توائم المتغيرات، بما في ذلك التشريعات التي تنظم السلطة القضائية وترتّب العلاقات بين أعضائها، بل تضع ضوابط كي تحدّ من الأخطاء التي يمكن لأعضاء هذه السلطة الوقوع فيها. كما طورت السلطات القضائية في البلدان الديموقراطية آلياتها وزادت من شفافيتها بشكل يزيد من ثقة الناس في القضاء ويمنحهم فرصاً أكبر لضمان العدالة.ومن تلك التطورات في الأنظمة القضائية ما يمكّنها من كشف الأخطاء وتصحيحها ومحاسبة المقصرين من أعضائها، إضافة إلى توفير فرص أكبر للطعن في أحكامها لدى درجات أعلى من المحاكم، بل ضمان قدرة الإنسان البسيط على مقاضاة القضاة الذين ينتهكون حقاً من حقوقه.وكلما توافرت تلك الضمانات وطبقت تطبيقاً صارما زادت ثقة الناس بالقضاء واطمأنّوا على حياتهم وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، أما إن شاع بينهم أن مخاصمة القاضي أمر صعب أو مستحيل على الرغم من وجود قوانين تسمح به، فسينعكس ذلك سلباً على سمعة المرفق القضائي برمته، وهذا، لعمري، أمر في غاية الخطورة.إن ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة وبهذه المقدمة الطويلة هو ما يتداوله الناس بشكل متزايد عن صعوبة مخاصمة بعض القضاة أو حتى استخدام الحق القانوني في طلب استبدالهم إذا ما شعر الإنسان أن هناك احتمالاً لانحياز القاضي أو حتى إن ساوره الشك في ذلك، وتدور الأحاديث عن أن من يُقدِم على مخاصمة قاض سيضمن خسارة قضيته، ويفسر هؤلاء استنتاجهم بالقول: إن المجتمع الكويتي صغير للغاية والناس تعرف بعضها بشكل متداخل، مما يمكن أن يؤثر في القرار النهائي، بل يذهب البعض إلى استنتاج أن بعض القضاة قد يشعر بالإحراج للحكم ضد زميل من زملائه، أو أن البعض قد ينتصر لزميله كي يهاب الآخرون استسهال مقاضاة القضاة.ففي المجتمعات التي تتعامل مع نظام المحلفين تجرى تحقيقات دقيقة على من يتم اختيارهم ضمن المحلفين لضمان عدم معرفتهم المسبقة بالقضية أو أحد أطرافها، كما يتوافر على الدوام عدد من المحلفين الاحتياطيين، حتى إن اكتشفت هيئة المحكمة أن أحداً ممن اختارتهم كمحلفين أساسيين لديه انحياز إلى أي من الطرفين فإنها تستبدله بوأحد من الاحتياط، كما لابد من موافقة أطراف القضية الآخرين على هذا الاستبدال، كل هذه الضمانات كي لا يتخذ المحلف قراره النهائي إلا بناء على الأدلة المقبولة من قبل المحكمة وليس على أي شيء آخر.أما لدينا في الكويت فلا وجود لنظام المحلفين ويكتفى بهيئة المحكمة المكونة من رئيس ومستشارين، ولهذا حدد قانون المرافعات أسباباً يجوز في حال وجود أي منها طلب رد القاضي واستبداله بآخر، وعلى الرغم من وجود هذه المادة فإن كثيراً من المحامين يترددون عشرات المرات في تقديم طلب الرد، لأنهم يخشون أن يعتبر القاضي ذلك الطلب إهانة له، مما سيؤثر في أي قضية أخرى يدافع عنها ذلك المحامي أمام نفس القاضي. لذا لم يعد يكفي وجود المادة لضمان تطبيقها، بل يتحدث بعض المحامين عن حالات تضرر فيها المحامون الذين طلبوا رد القاضي بشكل شخصي، إذ رفعت ضدهم دعاوى وأصبح القاضي خصماً للمحامي.وعلى الرغم من وجود آليات وقوانين ولوائح تمكّن الجسم القضائي من تنقية نفسه من أخطاء بعض أعضائه فإن حالات كهذه مرت من دون توفير جو مريح يتيح للناس مقاضاة القضاة من دون المغامرة في النتيجة، فهل نحن بحاجة إلى مزيد من الإصلاحات التشريعية لتوفير هذا الجو، من أجل استمرار السمعة الطيبة للقضاء الكويتي؟ فلا أظن أن قضاتنا يخشون مزيداً من الشفافية ومزيداً من التطوير في الآليات كي يسهل تساقط هذا القليل من الدرن الذي يلتصق بالثوب القضائي الناصع بسبب ممارسات شخصية محدودة.
مقالات
رأي في الإصلاح: إذا خاصمك القاضي!
16-11-2007