إعلام القبيلة

نشر في 11-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 11-11-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

بدأ التعبير الإعلامي للقبيلة شعراً؛ إذ مكث الشعر قروناً ديواناً للعرب فريداً، أما اليوم فهناك مهرجانات «مزاين الإبل»، حيث تقام مخيمات، وتفرد ساحات، وتنشئ كل قبيلة جهازاً إعلامياً لمهرجانها، يكون معنياً بكل ما يخص «صورة القبيلة مقارنة بصورة غيرها من القبائل».

اليوم يعرف كل زائر لدولة من دول الخليج العربية أن ثمة تعبيرات إعلامية للقبيلة تزدهر وتتكاثر، بالتزامن مع بروز النزعات التعصبية والمنحى الارتدادي العام إلى أسوأ ما في العصبية القبلية. وإذا كان ابن خلدون قد رأى أن العصبية القبلية لا تدوم مع الترف والنعيم في اقتصاد الزرع والضرع الاكتفائيين في زمانه، وأن حكمها لا بد أن يؤول إلى الترهل والهزال، فإنه لا يبدو أن معادلته تلك صدقت على حالنا.

ففي الوقت الذي تتطور فيه مؤسسات الحكم الخليجية، وتلامس أسعار النفط حاجز المئة دولار للبرميل، وتترقى دول مجلس التعاون في مؤشرات التنافسية الاقتصادية والتنمية العالمية، وتنتعش المحافظ المالية، وتتصاعد الفوائض، وتنعكس بشكل أو بآخر اكتفاءً أو رفاهاً على قطاعات عريضة في المجتمع، في هذا الوقت بالذات تبعث النزعات التعصبية القبلية من رقاد بدا زمناً أنه سيطول.

والقبيلة باعتبارها تكويناً اجتماعياً يقوم على روابط الدم والقرابة والعادات والتقاليد المتوارثة، مثّلت وحدة التنظيم الأساسية في المجتمعات العربية زمناً طويلاً، وهي إحقاقاً للحق وإنصافاً، رفدت الواقع العربي بالكثير من مقومات الصمود والمنعة، كما وفرت أسباباً، في بعض الأحيان لتحقيق أهداف وطموحات وطنية أو قومية، على الرغم من إمعانها في النخبوية والتفرد العرقي القائم على وحدة الدم. وفي المقابل، كانت النعرات القبلية أحد أسباب الضعف، وأحياناً الاقتتال والتشظي، في لحظات تاريخية مصيرية، وخصوصاً عندما كانت تستخدم أداة لصاحب غرض سياسي، سواء جاء من الداخل أو الخارج.

وبدأ التعبير الإعلامي للقبيلة شعراً؛ إذ مكث الشعر قروناً ديواناً للعرب فريداً، وسجلاً بالمفاخر والأحداث والأهوال واحداً، ووسيلة للإخبار وتسليط الضوء على الأحداث ذات الاهتمام ومن ثم صنع الصورة المرجوة للقبيلة ورجالها ونسائها، وصيانتها، وتطويرها بحسب الأحداث.

ولتستطيع وسيلة إعلام القبيلة تلك القيام بدورها على الوجه الأكمل، ينتخب الشعراء، ويمنحون المعاني، ويرزقون بالنعم، ويعاملون بالاحترام والإجلال، ليكونوا قادرين على امتلاك قريحة تنتج من القول ما يعزز شأن القبيلة ومنسوبيها، ويحط من شأن من يعاديهم، ويقزم مناقب الآخرين عموماً.

ولما كانت الأشعار القبلية بطبيعتها تكريساً للعصبية من حيث هي جهاز دفاعي، يشكل قوة ردع للقبيلة، تصد بها احتمالات العدوان من القبائل أو العصائب الأخرى، وجهاز علاقات عامة هدفه تحسين الصورة وصيانتها، وجهاز تعبئة يسعى إلى الحشد في وقت الخطر، فقد كانت أحياناً كثيرة سبباً في حد ذاتها لاشتعال حروب وخلق عداوات وتفتت وحدات.

اليوم تغيرت وسائل إعلام القبيلة تماشياً مع تطور الأحوال وثورة المعلومات والتقنية وعوائد البترول والتجارة المزدهرة في أكثر من دولة خليجية، لكن مخاطر تلك الوسائل ربما باتت أنكى وأكثر قسوة من ذي قبل.

ويمكنك بوضوح أن ترى اليوم في أكثر من دولة خليجية احتفالات ذات شأن عظيم بمهرجانات «مزاين الإبل»؛ وفيها وعليها تنفق ملايين الريالات والدراهم والدينارات، بهدف أساس يتمثل في تعزيز صورة القبيلة وإعلاء شأنها، ومن ثم فرض صورتها المتميزة مقارنة بالآخرين.

وفي مهرجانات «مزاين الإبل» تقام المخيمات، وتفرد الساحات، وتنشئ كل قبيلة جهازاً إعلامياً لمهرجانها، يكون معنياً بإصدار البيانات والإيضاحات، وإعطاء التصريحات، ومتابعة ما ينشر عن المهرجان في وسائل الإعلام لضمان جودته، ونهوضه بالاستحقاق المهم والخطير؛ «صورة القبيلة مقارنة بصورة غيرها من القبائل». وتعين القبيلة لهذا الغرض صحافياً مرموقاً، ليكون ناطقاً باسمها، ومنسقاً لوجودها الإعلامي، وضامناً للانتشار الأكبر في وسائل الإعلام المهمة.

وفي غضون هذا الحدث الاحتفالي الضخم، تؤجر المساحات في الصحف السيارة للإعلان عن «مزاين قبيلة كذا»، وتلتقط الصور، وتحضر الشخصيات المهمة.

على شبكة المعلومات الدولية اليوم يمكن إحصاء أكثر من 400 موقع تحت اسم «الموقع الرسمي لقبيلة...»، والمشكلة لا تتعلق فقط بعدد تلك المواقع، الذي يبدو أكبر بكثير من عدد مواقع الصحف اليومية العربية الذي لا يتعدى الـ200، والذي يبدو أيضاً أكثر بنحو عشرين ضعفاً من عدد وزارات الخارجية العربية، ولكن المشكلة أيضاً تتعلق بنسبة نمو عدد تلك المواقع، وهي نسبة تفوق نسبة النمو في عدد مواقع منظمات المجتمع المدني العربية.

وإلى جانب العلامات القبلية على السيارات، والتي يضعها الشباب في غير دولة خليجية إعلاناً عن هويتهم القبلية، وافتخاراً بها، وتضخيماً لصورة القبيلة التي ينتمون إليها، هناك القمصان التي توزع وتحمل شعارات قبلية خصوصاً على هامش مهرجانات «مزاين الإبل»، فضلاً عن الأرقام الكودية التي باتت شفرة يعرف بها منسوبو القبائل ذويهم وأخوة دمهم.

وليت الأمر يقتصر على هذا؛ إذ سعت قبائل بعينها، عبر أجهزتها الإعلامية إلى تأجير قنوات فضائية كاملة، أو مساحات معتبرة على فضائيات ما لبث أنشطة وفعاليات خاصة بها، وإجراء حوارات ومتابعات لمهرجاناتها، وبالطبع لا يسلم الأمر من نعرات هنا، ومشاحنات هناك.

وللتوافق مع استحقاقات العصر، والاستفادة من أعلى تجليات التقنية، فثمة رسائل موبايل قصيرة تخص الأحداث الاحتفالية للقبيلة، ويتم تداولها على الفور بين أبنائها.

لم يعد أمامنا إلا أن ننتظر صدور صحف يومية تحت أسماء قبلية، وانطلاق فضائيات خاصة بهذه القبيلة أو تلك، أو إقامة مناظرات في برامج تلفزيونية حية لمعرفة من بين قبائلنا الأفضل، أو الأطهر، أو الأعز، أو الأعلى نسباً... ثم نرجع قروناً إلى الوراء، وننقض على كل ما حققناه من مكاسب تحت علم الدولة الوطنية، وفي هذا يقول عز وجل «إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون».

* كاتب مصري

back to top