غزة وفشل مبدأ الردع
الحقيقة أن إسرائيل تجمع بين الدفاع عن النفس والردع، بينما توظف العقاب الجماعي سعياً إلى تحقيق غاياتها الاستراتيجية، إلا أن مفهوم الردع هذا أثبت فشله في لبنان في العام 2006، حيث اضطرت إسرائيل إلى قبول اتفاقية لوقف إطلاق النار تحت رعاية الأمم المتحدة، وليس من المرجح أن يحقق نفس المفهوم النجاح في غزة.
مع كل يوم يمر في قطاع غزة تخضع نظرية الردع الاستراتيجي للاختبار، والردع الاستراتيجي هنا يعني منع الهجمات من خلال بث الخوف من العقاب على يد قوة عسكرية متفوقة. وتصعيد العنف على هذا النحو من جانب إسرائيل والمقاتلين في غزة لا يشير إلى فشل الردع فحسب، بل يؤكد أيضاً أن فعالية الردع تتوقف على الالتزام بالمعايير الجوهرية للأخلاق.يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين في مجال الأمن والمنظرين الحربيين المنصفين أن الردع قد لا يكون محل اعتراض على المستوى الأخلاقي في الحالات التي لا تتأثر بها أرواح المدنيين وسلامتهم على نحو مباشر. إذ إن التهديد بالانتقام، الذي تقوم عليه الفعالية الاستراتيجية للردع، يظل ضمنياً وفرضياً. ولكن حين يمكن التمييز بين الردع والعقاب الجماعي المحظور طبقاً للقانون الدولي بموجب المادة 33 من معاهدة جنيف الرابعة فمن غير المرجح أن ينجح الردع في تحقيق النتائج المرجوة منه.
كانت إسرائيل، التي انسحبت بقرار أحادي إلى حدود قطاع غزة في سبتمبر 2005، تسعى إلى منع مقاتلي المقاومة الفلسطينية من قصف أراضيها بالصواريخ. وبعد مرور فترة بسيطة منذ أعادت انتشار قواتها إلى حدود غزة، عملت إسرائيل على إحكام قيودها على أي اتصال بين غزة والضفة الغربية، علاوة على منع السلع من الدخول إلى غزة أو الخروج منها. وحين اختار الفلسطينيون برلماناً مناصراً لـ«حماس» في انتخابات حرة نزيهة في يناير 2006، قادت الولايات المتحدة وإسرائيل حملة لمنع كل البنوك، بما في ذلك البنوك العربية والإسلامية، من التعامل مع الحكومة الجديدة.رفضت إسرائيل بكل إصرار العروض المتكررة من جانب «حماس» بوقف إطلاق النار في مقابل رفع الحصار عن غزة. وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها شركة ديالوج ونشرتها صحيفة هآرتز اليومية الإسرائيلية أن 64% من الإسرائيليين يؤيدون إقامة حوار رسمي مع «حماس». إلا أن الحكومة والجيش الإسرائيليين يرفضان ذلك، ويطلقان على «حماس» وصف المنظمة الإرهابية سعياً إلى حرمانها من الشرعية، على الرغم من التفاهمات التي تم التوصل إليها سابقاً في جنوب لبنان مع «حزب الله»، والذي تعتبره الحكومة والجيش «منظمة إرهابية» أيضاً.يبدو أن القيادات الإسرائيلية تعتقد أن الخيار الوحيد أمامها يتلخص في تضييق الخناق على غزة. وباسم الردع أصبحت حركة الناس والسلع شبه متوقفة تماماً الآن. إلا أن المقاومة الفلسطينية ترد على هذا الحصار بإطلاق المزيد من الصواريخ على إسرائيل. ولم تسفر حملات الاغتيال الإسرائيلية ضد المقاتلين الفلسطينيين إلا عن تصعيد الهجمات من الجانب الفلسطيني. وكلما فشلت جهود الردع الإسرائيلية في تحقيق النتائج المرجوة تسارع إسرائيل إلى تشديد الحصار على أمل أن يكون في هذا ضربة حاسمة للمقاتلين في غزة.وكانت النتيجة في النهاية حالة واضحة من العقاب الجماعي في واحدة من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً بالسكان (3823 نسمة في كل كيلومتر مربع). أثناء زيارته لقطاع غزة، قال جون دوغارد، المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة: «غزة عبارة عن سجن وإسرائيل هي السجان الذي ألقى بمفتاح السجن بعيداً». في شهر يناير، على سبيل المثال، بدأت إسرائيل في استغلال احتكارها للإمدادات من الوقود لعقاب الفلسطينيين، وهو القرار الذي أدانته منظمة واتش لحقوق الإنسان في الشهر التالي. وأعلن جو ستورك مدير المنظمة في الشرق الأوسط رفضه المبررات التي ساقتها إسرائيل لتسويغ قرارها بقطع إمدادات الوقود كوسيلة لإرغام الجماعات الفلسطينية المسلحة على وقف هجماتها الصاروخية والانتحارية. ويرى ستورك أن قطع الإمدادات يؤثر بشدة في المدنيين الذين لا تربطهم علاقة بهذه الجماعات المسلحة، وأن ذلك الحظر يشكل انتهاكاً للمبادئ الجوهرية التي أرستها قوانين الحرب.على نحو مماثل، وفي أعقاب الغارات الإسرائيلية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في أوائل شهر مارس، والتي أودت بحياة ما يزيد على المئة فلسطيني، تحرك بان كي مون، أمين عام الأمم المتحدة، فأدان الاستخدام المفرط للقوة على النحو الذي أدى إلى مقتل وإصابة هذا العدد الكبير من المدنيين، بما في ذلك العديد من الأطفال.رغم تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، تتذرع إسرائيل بالدفاع عن النفس، حيث جاءت تلك الغارات الجوية في أعقاب إطلاق صاروخ من غزة ومقتل أحد المدنيين الإسرائيليين في مدينة سديروت الحدودية. إلا أن مايكل بايرز، أستاذ القانون في جامعة دوك، يقول في كتابه «جرائم الحرب» إن استخدام القوة في الدفاع عن النفس لا ينبغي أن يتجاوز حدود المعقول أو أن يكون مفرطاً. أما في ما يتصل بالعمل الاستباقي، فهو يرى أن الضرورة لابد أن تكون فورية ومباشرة وملحة، بحيث لا تدع مجالاً للاختيار في السبل المتاحة أو التفكير المتأني.الحقيقة أن إسرائيل تجمع بين الدفاع عن النفس والردع، بينما توظف العقاب الجماعي سعياً إلى تحقيق غاياتها الاستراتيجية. إلا أن مفهوم الردع هذا أثبت فشله في لبنان في العام 2006، حيث اضطرت إسرائيل إلى قبول اتفاقية لوقف إطلاق النار تحت رعاية الأمم المتحدة، وليس من المرجح أن يحقق نفس المفهوم النجاح في غزة. والحقيقة أن استطلاعات الرأي التي أجريت في غزة تظهر ارتفاعاً في أعداد مؤيدي «حماس» بعد كل تصعيد من جانب إسرائيل.يتعين على المجتمع الدولي أن يتحرك بسرعة لإجبار إسرائيل على التخلي عن استراتيجية الردع، والعمل بدلاً من ذلك على التوصل إلى تفاهم من الممكن أن يؤدي إلى توقف الهجمات من الجانبين. إذ إن التوصل إلى مثل هذا التفاهم من شأنه أن يسمح ببداية التحركات الأساسية اللازمة للتوصل إلى الحل السياسي القادر على إنهاء الحصار المفروض على غزة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.* داوود كتاب، أستاذ في جامعة برينستون سابقا ومؤسس ومدير معهد الإعلام العصري في جامعة القدس في رام الله، وهو ناشط قيادي من أجل حرية الإعلام في الشرق الأوسط.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»