Ad

الحظر على العراق هو الذي قام مقام التأسيس لعودة اللجوء إلى الحصار وسيلة من وسائل الحرب، وكان يُعتقد أن الحروب الحديثة قد تجاوزتها، تقنياً إن لم يكن أخلاقياً. أما بلورة تلك العودة، وتبنيها علناً وتقنينها والسعي إلى إضفاء الشرعية عليها، فقد تم على يدي إسرائيل.

يذهب بعض مؤرخي الحروب إلى أن حملات نابليون، جنرال الفرنسيين ثم إمبراطورهم، قد جبّت الاعتماد على الحصار، وسيلة لإثناء عدوّ والنيل من عزيمته، وألغته، فهي إذ كثفت اللجوء إلى سلاح المدفعية وطوّرت تصنيعه، تدكّ به الأسوار دكاً، أصابت التحصينات بالبطلان وأنهت جدواها العسكرية وأحالتها إلى أرشيف النزاعات أو فولكلورها، حتى إذا ما حل القرن العشرون، قرن المواجهات الكبرى، إذ شهد حربين عالميتين، ناهيك عن حروب محلية وإقليمية متعددة، كانت التحصينات، في صيغتها التقليدية وكما خبرتها البشرية منذ فجر تاريخها، قد أضحت أمراً مُتجاوزاً عفى عليه الزمن، أو لم تبق منه غير رواسب، هي المتمثلة في الخنادق، خصوصاً بعد تطور وسائل القصف من بعيد، من طيران وصواريخ… حتى السلاح الأقصى، ذلك الذري الذي جُرب في هيروشيما وناغازاكي.

ولعل من بين ما يؤكد كلام المؤرخين هذا، أن الحصار تحول منذ القرن التاسع عشر، أقله في فرنسا، وتحت مُسمّى «حالة الحصار» (جد تطور مماثل في ثقافات تشريعية أخرى تحت مسميات أخرى)، من «تقنية» عسكرية إلى مفهوم قانوني، يعني في ما يعني، تعليق العمل مؤقتا، بالقوانين المدنية، على حيز ترابي قد يشمل البلد كله أو بعض أجزائه، وإخضاعه إلى القوات المسلحة أو إيكال أمره إلى قوات الأمن ذات السلطات الموسعة، فانفصل ذلك المفهوم عن حالة الحرب وما عاد مرتبطاً بها ضرورةً، على ما فعلت فرنسا إياها، عندما لجأت إلى ذلك الإجراء قبل سنتين، لمواجهة ما ألمّ بضواحي مدنها من شغب وعنف.

لكن السنوات الأخيرة، سنوات ما بعد الحرب الباردة، يبدو أنها بصدد دحض ملاحظة المؤرخين الآنف ذكرها، أو على الأقل ما اعتمد منها تحقيباً صارماً، يقطع، في ذلك الصدد، بالتجاوز، ويجزم بالقطيعة. إذ نلحظ عودة إلى توخي الحصار كفعل عسكري، أو رافد للأعمال العسكرية، مكوّنا من مكوّنات حالة الحرب.

الحظر الذي ضربته الولايات المتحدة (وإن بمباركة أممية) على العراق، في أعقاب حرب الخليج الثانية، واستمر حتى إسقاط نظام صدام حسين، ومعه الدولة العراقية، في سنة 2003، مثّل إيذاناً بتلك العودة. فقد تطابق الحظر ذاك، مع مفهوم الحصار التقليدي، من أوجه عديدة، بل تخطاه في أنه لم يكن مكملاً لحرب تخاض بوسائل عسكرية أخرى، بل اقتُصر عليه فقام بديلاً عن تلك الوسائل. وهو، وإن لم يحصر سكان العراق داخل أسوار مادية، إلا أنه كان بالغ الفاعلية، تدميراً وفتكاً. صحيح أن الحظر على العراق لم يفصح عن اسمه بوصفه حصاراً، ولا في كونه من وسائل المواجهة العادية أو الشرعية، وكان يعتريه بعض حرج أخلاقي، حتى دفع الاستياءُ حيال تداعياته ومفاعيله إلى إقرار «اتفاقية النفط مقابل الغذاء»، ولكن الاتفاقية تلك أخفقت في الحد من تلك التداعيات والمفاعيل، وما كان لها إلا أن تفعل، وإلا فقد الحظر مبرره. فقد أريد منه إنهاك العراقيين من أجل دفعهم إلى إسقاط النظام، أي تولي تلك المهمة التي ما كان الأميركيون راغبين في الاضطلاع بها أصالة عن أنفسهم، حيث كانت نظرية «الصفر قتيل» (في صفوف قواتهم)، هي السارية أقنوماً لم يتم التخلي عنه إلا في عهد جورج دبليو بوش، بعد الحادي عشر من سبتمبر. لكن الحظر على العراق هو الذي قام مقام التأسيس لعودة اللجوء إلى الحصار وسيلة من وسائل الحرب، كان يُعتقد بأن الحروب الحديثة قد تجاوزتها، تقنياً إن لم يكن أخلاقياً.

أما بلورة تلك العودة، وتبنيها علناً وتقنينها والسعي إلى إضفاء الشرعية عليها، فقد تم (استناداً إلى سابقة الحظر الذي فُرض على بلاد الرافدين في تسعينيات القرن الماضي) على يدي إسرائيل، على ما يدل الحصار المضروب على قطاع غزة. فالدولة العبرية، سعت إلى استعادة اللجوء إلى الحصار وسيلة قتالية عادية محاولة إدراجه في نمطية قانونية ما، إذ أسندت توخيها له إلى مبدأ، هو المتمثل في إعلان قطاع غزة «كياناً معادياً»، مُقْدمة بذلك على تجديد يرمي إلى تحويل ما كان مجرد سابقة إلى قاعدة راسخة.

إعلان طرف من الأطرف «كياناً معادياً» ليس بالأمر الجديد في ذاته، فقد سبق أن اعتمدته دول في توصيف دول أخرى تناصبها العداء، أو منظمات تقاتلها أو أوساط تعاديها، وفي تسويغ مجابهتها، لكن ما فعلته إسرائيل هو توسيع مدى ذلك المبدأ، ليشمل، من دون تمييز، منطقة أو إقليماً بأسره، برمته، بقضه وقضيضه، بكل سكانه، بمقاتليه وبمدنييه، بنسائه وبأطفاله وبشيوخه ناهيك عن رجاله، بأصحائه وبمرضاه وبكل ما يدب في أوصاله نَفَس من حياة على أديمه، فُرض عليها كلها نفس الحصار المطبق، وسيلة قتالية قصوى.

هدف إسرائيل من ذلك هو نظير ومثيل ذلك الذي حاولت الولايات المتحدة بلوغه بواسطة الحظر على العراق: دفع السكان إلى الانتفاض ضد حكامهم، أي التحلل من عبء القتال على السكان بابتزازهم بالجوع والخصاصة والحاجة. ولا يُعتقد أن الوسيلة هذه ستصيب من النجاح، في إطاحة حكومة «حماس»، أكثر مما أصابت في إطاحة نظام صدام حسين…

غير أن ما يجعل اللجوء إلى الحصار أمراً لا يُطاق، ليس فقط انعدام جدواه ومردوده، ولكن في ذاته، كتجلّ من تجليات الحرب الشاملة، توغل فيها بحيث تجعل من السكان المدنيين وقودها الحصري، لا فقط ضحاياها العرضيين… وأنكى ما في أمره، أنه بصدد الاستقرار وسيلة عادية من وسائل الحرب، يقبل بها العالم ويقرها أو هو على الأقل لا يعترض عليها.

* كاتب تونسي