Ad

يظن القاعد أنه كسب مرتين: بالقعود خوفاً من الموت وفي التمتع بالغنيمة بعد النصر مادياً ومعنوياً، كما يظن أن المجاهد قد خسر مرتين: خسر حياته في الدنيا بالاستشهاد وخسر نعيمها في المال والبنين، وهو إدراك خاطئ لأن المجاهد كسب حياته مرتين: احترام الناس، والدفاع عن العزة والكرامة في الدنيا، والنعيم الأوفى في الآخرة.

ليس التخلف فقط في مقابل التقدم كما هي الحال عند المعاصرين، بل هو أيضا في القرآن الكريم تخلف عن الجهاد وقتال العدو وقعود عنه، كما هي الحال في ترك الفلسطينيين يقاومون الاحتلال وحدهم من دون مساندتهم من الإخوة في العروبة والإسلام في دول الجوار القريب أو البعيد. ليس التخلف فقط هو المعنى الاقتصادي بل أيضا المعنى السياسي. المتخلف اقتصاديا من لا يطعم نفسه ويعيش على المعونة الخارجية، والمتخلف سياسياً هو من لا يستطيع أن يقاوم ويحرر نفسه.

المتخلف عن القتال تضيق عليه الأرض بما رحبت كما حدث للثلاثة الذين تخلفوا عن القتال أيام الرسول، «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ». يشعر بالذلة والمهانة. يسير مطأطئ الرأس، منحني الظهر، مُطبق الجفنين من الإحساس بالعار والانكسار.

ولا يجوز لمن يقول إنه مسلم يتبع الرسول أن يتخلف عنه، «مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ». والعرب أهل قتال وحرب في الجاهلية من أجل العصبية والعدوان، وهم كذلك في الإسلام دفاعاً عن المظلوم والمستضعف. وتسمع في المساجد كل أسبوع ضرورة الاقتداء بالرسول. يفهم بعض المسلمين الأفارقة الاقتداء في تعدد الزوجات لإيجاد شرعية للعادة الأفريقية. وفي بعض الطرق الصوفية وصل الإصرار على الاقتداء إلى حد التأليه في «الحقيقة المحمدية»، وفي الأدعية «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله». مع أن الاقتداء به لشعب محتل هو التحرر وجهاد العدو.

وكيف يفرح المتخلفون عن الرسول في الجهاد «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» والاقتداء يتطلب العزة والكرامة ورفع الرأس وارتفاع القامة «مرفوع القامة أمشي»؟ إنه فرح زائف، ورضا بالحياة الدنيا. التخلف عن القتال رضا بالضيم وقبول بالمهانة، جهل وسوء فهم «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ»، وتغييب للوعي. والأعذار كثيرة للتخلف منها الانشغال بالدنيا والحرص عليها، السلطة والثروة «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا»، إيثار الدنيا على الآخرة، وتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. ومع ذلك يريد القاعدون والمخلفون أخذ نصيبهم من الغنائم وآثار النصر المادية والمعنوية من دون جهاد ومقاومة «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ». يريدون الغنم وليس الغرم، يحرصون على العاجل دون الآجل. مع أن الجهاد مكسب مرتين: الأولى دفع العدوان، والثانية نيل أجر الشهادة.

والمتخلفون والقاعدون مضطرون إلى مواجهة العدوان «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ». فالجهاد مفروض على الناس لدرء العدوان، «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ». وإذا كان العدوان طبيعياً في البشر فإن الدفاع والمقاومة طبيعيان أيضا.

والقعود تخلف. والقاعدون مثل المتخلفين «إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ». فالقعود أول مرة يؤدي إلى القعود ثاني مرة حتى يصبح القعود عادة مهما وقع على الذين تعودوا على القعود من عدوان مستمر ويومي كما يحدث في فلسطين.

القعود تكذيب للرسول، وإنكار لنبوته، وعصيان لرسالته «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ». فالإيمان ليس نظرياً بل هو إيمان عملي. ليس قولاً باللسان بل عملاً بالأركان ومنها الجهاد. واتباع الرسول ليس فقط في العبادات بل أيضا في المعاملات، ليس فقط في الأخلاق بل أيضاً في السياسة.

القعود رفض لاتباع الرسول «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ» كما فعل بنو إسرائيل مع موسى، وفي قلوب المسلمين جميعا، الرسول قدوة. وفي شعار كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة «الرسول قدوتنا». ولم يكن قاعداً عن قتال ولا متخلفاً عن غزوة. بل إنه لما لبس لامته استعداداً للقتال بناء على مشورة المسلمين الذين تراجعوا عن مشورتهم.

والقعود لا يمنع من الموت، فلكل أجل وكتاب، والشهادة في القتال خير من الموت على الفراش كما قال الشاعر:

وإذا لم يكن من الموت بدٌّ

فمن العجز أن تموت جبانا

وكما تأسف خالد بن الوليد وهو يموت بأنه خاض مئات المعارك، ولا توجد قطعة من جسمه لا يوجد فيها طعنة رمح أو ضربة سيف ومع ذلك يموت في فراشه كما تموت النعاج. فالموت مصير البشر. وهكذا فسر الأفغاني الإيمان بالقضاء والقدر بأنه لا يبعث على الكسل والتواكل مادام كل شيء قد قدر سلفاً، بل يبعث على الشجاعة والإقدام. ومن الأفضل أن يموت الإنسان في ساحة الوغى على أن يموت خوفاً من المرض «الَّذِينَ قَالُوا لِإخْوَانِهمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطَاعُونَا مَا قُتِلُوا».

والاستئذان في القعود حرص على السلطة والوجاهة والصدارة الاجتماعية «اسْتَأذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ». هو إيثار للدنيا على الآخرة، وقبول الدنيّة في الدين. وقديماً كان يُعفى من الجهادية أولاد الطبقة العليا من الباشوات، ودفع البدلات. فيقع الجهاد على الفلاحين نزعاً من الأرض «يا أعز من عيني أنا نفسي أروح بلدي، بلدي يا بلدي، السلطة خدت ولدي».

ولا يستوي القاعدون مع المجاهدين في الدرجة والمقام «لا يَسْتَوي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ». فالقاعد غير المجاهد، والمتخلف غير المتقدم. وجزاء الحسنة حسنة مثلها. وجزاء السيئة سيئة مثلها. يظن القاعد أنه كسب مرتين: بالقعود خوفاً من الموت وفي التمتع بالغنيمة بعد النصر، مادياً ومعنوياً. وهو خاسر في الحالتين. خسر الكرامة والعزة وخسر الشهادة والتضحية والنعيم الأوفى. ويظن القاعد أن المجاهد قد خسر مرتين: خسر حياته في الدنيا بالاستشهاد وخسر نعيمها في المال والبنين. وهو إدراك خاطئ لأن المجاهد كسب حياته مرتين: احترام الناس والدفاع عن العزة والكرامة في الدنيا، والنعيم الأوفى في الآخرة. ولا يستوون في الأجر والفضل والجزاء، «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا». فالقاعد خسر كل شيء ولم يكسب شيئا. والمجاهد كسب كل شيء ولم يخسر شيئا.

فصبراً آل غزة، إن غداً لناظره قريب «وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أنْ يَكُونَ قَرِيباً».

* كاتب مصري