تهافت الدولة الدينية
العلاقـة بين ثوابت الدين ومتغيرات السياسة - وهي علاقة تضادية أصلاً وفصلاً- علاقة غير عضويـة، وغير قابلة للنمو والازدهار الطبيعي، لأن الدولة ليست سلطة فكرية أو عقلية أو عقائديـة، في حين أن الدين سلطة فكرية وعقائدية وعقلية. فالدين هو الفكر والاعتقاد، والدولة هي السياسة والمصالح والمنافع.
1 كان للإسلام السياسي بقيادة جماعة الأخوان المسلمين والأحزاب الدينية الأخرى في العالم العربي، الأثر الفعّال الكبير في رفع وتيرة ونبرة الدولة الدينية. وفي الأيام الماضية كان لوضع «حماس» الجديد في غزة الأثر الأكبر في دفع مفهوم الدولة الدينية على سطح الأحداث العربية، حيث اعتبر ما جرى في غزة هو النكبة الحقيقية التي حلّت بالقضية الفلسطينية، وليس نكبة 1948، كما اعتدنا أن نقرأ ونكتب ونقول.كان للإسلام السياسي بقيادة جماعة الأخوان المسلمين والأحزاب الدينية الأخرى في العالم العربي، الأثر الفعّال الكبير في رفع وتيرة ونبرة الدولة الدينية. وفي الأيام الماضية كان لوضع «حماس» الجديد في غزة الأثر الأكبر في دفع مفهوم الدولة الدينية على سطح الأحداث العربية، حيث اعتبر ما جرى في غزة هو النكبة الحقيقية التي حلّت بالقضية الفلسطينية، وليس نكبة 1948، كما اعتدنا أن نقرأ ونكتب ونقول.فإلى أي حد وصل تهافت إقامة الدولة الدينية العربية؟وهل تصمد دولة «حماس» الدينية في غزة إلى أمد طويل؟2 في العصر الحديث، لم تكن العلاقة بين الدين والدولة، أو بين المُقدّس والمُنجّس، أو بين الثابت والمتغير، علاقة إيجابية دائمة، ولم تكن أيضاً علاقـة سلبية دائمة. وإنما خضعت هذه العلاقة للوصل والفصل نتيجة لماهية الدين الخاصة وكذلك ماهية الدولة الخاصة المختلفة، وتبعاً لحاجـة السياسة للدين كغطاء شرعي لتمرير بعض القرارات وأداء بعض المهمات، وتبعاً لحاجة أفراد المؤسسـة الدينية للسياسة لتحقيق المآرب ورفع المطالب، والجلوس على الكراسي والقبض على السلطة، من خلال ملاحظتنا، أن معظم زعماء الجماعات الإسلامية يطلقون على أنفسهم «أمراء» تشبهاً بأمراء السياسة. فشكري مصطفى زعيم جماعة «التكفير والهجرة» يطلق على نفسه «أمير جماعة آخر الزمان»، والشيخ عمر عبد الرحمن يطلق على نفسه «أمير عام الجماعة» وليس «أمين عام الجماعة»، وهكذا. ويبدو أن الإمارة السياسية كانت العقدة المُستحكِمَة اجتماعياً وسياسياً في هذه الجماعات.في العصر الحديث، لم تكن العلاقة بين الدين والدولة، أو بين المُقدّس والمُنجّس، أو بين الثابت والمتغير، علاقة إيجابية دائمة، ولم تكن أيضاً علاقـة سلبية دائمة. وإنما خضعت هذه العلاقة للوصل والفصل نتيجة لماهية الدين الخاصة وكذلك ماهية الدولة الخاصة المختلفة، وتبعاً لحاجـة السياسة للدين كغطاء شرعي لتمرير بعض القرارات وأداء بعض المهمات، وتبعاً لحاجة أفراد المؤسسـة الدينية للسياسة لتحقيق المآرب ورفع المطالب، والجلوس على الكراسي والقبض على السلطة، من خلال ملاحظتنا، أن معظم زعماء الجماعات الإسلامية يطلقون على أنفسهم «أمراء» تشبهاً بأمراء السياسة. فشكري مصطفى زعيم جماعة «التكفير والهجرة» يطلق على نفسه «أمير جماعة آخر الزمان»، والشيخ عمر عبد الرحمن يطلق على نفسه «أمير عام الجماعة» وليس «أمين عام الجماعة»، وهكذا. ويبدو أن الإمارة السياسية كانت العقدة المُستحكِمَة اجتماعياً وسياسياً في هذه الجماعات.لقد كانت العلاقة بين المُقدّس والمُنجَّس علاقة مادية نفعية خالصة، لرجال السياسة ولرجال الدين - الذين أساؤوا إلى الدين بإقحامه في السياسة أكثر من إساءة السياسيين له - على السواء.ومن هنا، كانت العلاقـة بين ثوابت الدين ومتغيرات السياسة - وهي علاقة تضادية أصلاً وفصلاً- علاقة غير عضويـة، وغير قابلة للنمو والازدهار الطبيعي، لأن الدولة ليست سلطة فكرية أو عقلية أو عقائديـة، في حين أن الدين سلطة فكرية وعقائدية وعقلية. فالدين هو الفكر والاعتقاد، والدولة هي السياسة والمصالح والمنافع.ومن هنا كذلك، لم تُغْنَ السياسة بالدين، ولم يُثْرَ الدين بالسياسـة. بل على العكس من ذلك، فإن العلاقة القسرية الجبرية المنفعية بين الدين (المُقدّس الخالص لوجـه الله) وبين السياسـة (المُدنَّسة الخالصـة لمصالح الطبقات الماديـة) - نتيجة لطمع رجال الدين بالسياسة، وطمع السياسيين بالدين - جلبت للسياسة النكبات والأزمات والهـزات والفساد، بفضل الغطـاء الديني المطلق الذي منحه رجال الدين للحكام، والذي لا يُحاسَب ولا يُعاقَب الحكام في ظله. وجلبت للديـن الكراهية، والوحشية السياسية، والخشية منه، والخوف عليه، من أصحابـه ومن أعدائـه على السواء، بفضل السياسـة ومتغيراتها وتقلباتها ومصالحها الدنيوية، وما ألحقته بالديـن من سوءٍ في السمعة والتطبيق، ولوثته بأوزارها الكثيرة.3 ولكي ندرك تماماً مدى ما يلحق السياسـة والدين من أضرار نتيجة لربطهما ببعضهما، دعونا نتبين الفروقات الكثيرة بين الدين وبين السياسة:ولكي ندرك تماماً مدى ما يلحق السياسـة والدين من أضرار نتيجة لربطهما ببعضهما، دعونا نتبين الفروقات الكثيرة بين الدين وبين السياسة:الدين ثابت، لا متغيرات فيه. وهو ذو طابع ميتافيزيقي سحري وسلطة روحية. وكل النصوص في الدين مقدسة. وهدف الدين الإيمان والطاعة. والكرسي الديني مقدس وأبدي. والعلماء في الدين هم خلفاء الأنبياء، وهم هُداة ودعاة. والدين يحاكم الطغاة أمام محكمـة الله وليس أمام محاكم الشعب. وحساب الدين ليس في الدنيا ولكن في الآخرة. والدين صاحب ممارسة مثالية، ولا يمارس الممكن، ولكن ما يجب أن يكون. وللدين موقف أخلاقي من الحياة والمجتمع والناس. في حين أن السياسة متغيرة، لا ثوابت فيها. والسياسة ذات طابع إنساني وقانوني، وهي سلطة وطنية وعسكرية. ولا توجد نصوص مقدسة في السياسة، فهدفها السياسة المصالح والمنفعة. والكرسي السياسي متداول وقابل للطعن. والعلماء في السياسة هم دعامة السلطة. والسياسيون في السياسة أسود وثعالب. وتحاكم السياسة الطغاة أمام محكمة الشعب. وتظل السياسة – من حيث ممارسة واقعية لا علاقة لها بالمثاليات ولا بالأخلاق - هي فن الممكن وليست ما يجب أن يكون.4 ولعل العلاقة الضدية بين الدين والسياسة تتجلّى خير تجلٍ في قول عمر التلمساني المرشد العام الراحل للإخوان المسلمين في مصر إن «برنامج الإخوان المسلمين السياسي لم يتغير ولن يتغير بتغير الظروف السياسية. فليس هناك تعديلات ولا تغييرات في برامـج الإخوان المسلمين السياسيـة، لأنها برامج مستمدة من القرآن، والقرآن لا يتغير ولا يتبدل بتبدل الزمان والمكان والظروف المتقلبة. فكـلام الله يلائم الحياة حتى يوم الساعة» (الأهرام 15/11/1971). ولكنه بطبيعة الحال لا يلائم الحياة السياسية المتقلبة والمتغيرة. ومن هنا جاء الفصل بين الدين والسياسة. وقد قال بعض الفقهاء بذلك. فيقول الفقيه ابن عابدين:ولعل العلاقة الضدية بين الدين والسياسة تتجلّى خير تجلٍ في قول عمر التلمساني المرشد العام الراحل للإخوان المسلمين في مصر إن «برنامج الإخوان المسلمين السياسي لم يتغير ولن يتغير بتغير الظروف السياسية. فليس هناك تعديلات ولا تغييرات في برامـج الإخوان المسلمين السياسيـة، لأنها برامج مستمدة من القرآن، والقرآن لا يتغير ولا يتبدل بتبدل الزمان والمكان والظروف المتقلبة. فكـلام الله يلائم الحياة حتى يوم الساعة» (الأهرام 15/11/1971). ولكنه بطبيعة الحال لا يلائم الحياة السياسية المتقلبة والمتغيرة. ومن هنا جاء الفصل بين الدين والسياسة. وقد قال بعض الفقهاء بذلك. فيقول الفقيه ابن عابدين:«كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله ولحدوث ضرورة أو فساد الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف ورفع الضرر».ويقول الإمام الزيلعي: إن الأحكام قد تختلف باختلاف الزمان والمكان.5 إضافة إلى ذلك، فإن الدين غير قادر على كبح جماح السياسة الكاسر والكاسح في كثير من الأحيان. وكما قال جان-جاك روسو، فإن «الدولة تتأثر تأثراً كبيراً بمصالحها الخاصة إلى الحد الذي تلجأ فيه إلى القهر والظلم وطمس الحقيقة لتحقيق مصالحها، دون أن يكون للدين سلطة محاسبتها أو كبح جماحها». وفي هذه الحالة يُلام الدين على عدم تقويم السلطة السياسيـة وسكوته عليها، ما دامت الدولة دولة دينية. في حين أن الدين عاجز عن ذلك. ولا يتم مثل هذا التقويم إلا في الدولـة العَلْمانية ذات المؤسسات الديموقراطية القادرة على المحاسبة والمعاقبـة.إضافة إلى ذلك، فإن الدين غير قادر على كبح جماح السياسة الكاسر والكاسح في كثير من الأحيان. وكما قال جان-جاك روسو، فإن «الدولة تتأثر تأثراً كبيراً بمصالحها الخاصة إلى الحد الذي تلجأ فيه إلى القهر والظلم وطمس الحقيقة لتحقيق مصالحها، دون أن يكون للدين سلطة محاسبتها أو كبح جماحها». وفي هذه الحالة يُلام الدين على عدم تقويم السلطة السياسيـة وسكوته عليها، ما دامت الدولة دولة دينية. في حين أن الدين عاجز عن ذلك. ولا يتم مثل هذا التقويم إلا في الدولـة العَلْمانية ذات المؤسسات الديموقراطية القادرة على المحاسبة والمعاقبـة.ومن هنا، تجلب الدولة الدينية على نفسهـا النوائب والمصائب والنقد المرير والتجريـح العميق من قبل خصومها، نتيجة للمـأزق السياسي الذي هي فيه، من حيث أنها حوّلت المسجـد إلى قاعة لمجلس الوزراء، أو حوّلت قاعة مجلس الوزراء إلى مسجد. في حين أن لا جامع ولا قاسم مشتركاً واحداً يجمع بين المسجد وقاعة مجلس الوزراء، ما عدا أن المسجد هو الطريـق المؤدي إلى قاعـة مجلس الوزراء، في حين أن قاعة مجلس الوزراء لا تؤدي أبداً إلى المسجد.6 إن ربط الدين بالسياسة على مر العصور كان ربطاً على المستوى النظري أكثر منه على المستوى العملي. وظهر هذا الربط في الأدبيات السياسية الإسلامية أكثر مما ظهر في التطبيقات السياسية الإسلامية. وهذا ما جعل الشيخ محمد الغزالي يقول: «إن التاريخ السياسي الإسلامي ركام من الأقذاء، نما على مرِّ الأيام، وبلغ ذروته في السنين العجاف». (مئة سؤال في الإسلام، ص 281).إن ربط الدين بالسياسة على مر العصور كان ربطاً على المستوى النظري أكثر منه على المستوى العملي. وظهر هذا الربط في الأدبيات السياسية الإسلامية أكثر مما ظهر في التطبيقات السياسية الإسلامية. وهذا ما جعل الشيخ محمد الغزالي يقول: «إن التاريخ السياسي الإسلامي ركام من الأقذاء، نما على مرِّ الأيام، وبلغ ذروته في السنين العجاف». (مئة سؤال في الإسلام، ص 281).فعلى المستوى التطبيقي فصل الإسلام مبكراً بقيادة عمر بن الخطاب بين الدين والدولة، حين قام عمر بن الخطاب بإيقاف عقوبة السرقة في عام الرمادة، وإيقاف صرف المخصصات المالية للمؤلَّفة قلوبهم، رغم وجـود نص قرآني صريح على هذا وذاك، وعدم وجود استثناءات. وهذا بمثابة فصل للدين عن الدولة، ولو إلى حين، أو إلى أجل مُسمّى. ولو تكررت ظروف أخرى مشابهة تستدعي إيقاف أحكام الله وأوامره ونواهيه لمصلحة الدولة والرعية وفصل الدين عن الدولة، لما توانى عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين في القيام به، تبعاً لاختلاف الزمان والمكان، وتبعاً لطبيعة المجتمع المتشكل في ذلك الزمان وذلك المكان. ويجب أن نعلم بأنه لا توجد نصوص شرعية إسلامية تقول بثبات التعليمات وعدم تغييرها حسب الزمان والمكان. وما شعار «الإسلام صالح لكل زمان ومكان» الذي أصبح شعار كل الجماعات الإسلامية الآن، إلا من وضع أحد الشيوخ المصريين، وهو عبد العزيز جاويش (1876-1929) وليس نصاً دينياً مقدساً.كما نود أن نُذكِّر هنا، أن الخليفة عثمان بن عفان – الذي يُعتبر برأينا الصانع الحقيقي لتاج بني أمية الملكي- كان من أكثر الخلفاء الراشدين تساهلاً في فصل الدين عن الدولة، وذلك باتباعه سياسة مالية وإدارية، خاصة في تعيين الولاة من بني أمية وهم صغار السن قليلو الخبرة، وعزل الولاة من الصحابة ذوي التجربة الطويلة في الحكم، مخالفة لأحكام الدين، وتتمشى - من وجهة نظره - مع مصلحة الدولة، وهو ما لخصه عثمان بقوله: «لقد كان عمر بن الخطاب يمنع أهله من أموال المسلمين إرضاءً لله، وأنا أعطي أهلي من أموال المسلمين إرضاءً لله». وقال: «لو كان مفتاح الجنة بيدي لأعطيته لبني أمية». وقال: «العراق سواد قريش» وغيرها من الأقوال والتصرفات الإدارية والمالية غير الشرعية والمخالفة للدين، التي أدت إلى الثورة على عثمان، وقتله من قبل المعارضة، وعدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مدافن المسلمين.وللحديث صلة.كاتب أردني