تشيني عودة إلى مسرح الجريمة

نشر في 26-03-2008
آخر تحديث 26-03-2008 | 00:00
 علـي بلوط

قررت بلدتان صغيرتان جنوبيتان في ولاية «فيرمونت» إقامة الدعوى على بوش وتشيني بالاسم بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الدستور». ويقول منظِّم هذه الحملة الناجحة إنه من الممكن تقديم الرئيس ونائبه إلى المحكمة، لكنه يأمل أولاً في عزلهما قبل تقديمهما إلى المحاكمة الجنائية.

يتفق علماء الجريمة (CRIMINOLOGY) مع علماء النفس على نظرية تقول إن المجرم عادة ما يرجع الى مسرح الجريمة التي ارتكبها. لكنهم يختلفون على تحديد العوامل التي تدفع المجرم الى القيام بهذا العمل. منهم من يقول ان الذي يقتل بأعصاب باردة وحباً في القتل لا يشعر الا بلذة رؤية ضحيته وهو يلفظ انفاسه الاخيرة، وعودته الى مسرح الجريمة هي لاستعادة هذا الشعور او بعضه، والفريق الآخر من العلماء يفسّر العودة الى مسرح الجريمة من قبيل الاطمئنان الى انه لم يترك أثراً يدلّ عليه ويؤدي بالتالي الى تحقيق وتنفيذ العدالة به، كذلك يتفق علماء الجريمة مع زملائهم علماء النفس على انه لا فارق بين ارتكاب جريمة القتل الفردية والجريمة الجماعية، فالعوامل النفسية التي تدفع هؤلاء القتلة هي واحدة ولو اختلفت اسبابها ومعطياتها واهدافها، سواء كانت شخصية او سياسية مثل اغتيال الزعماء والقادة تحقيقاً لمأرب سياسي، او الاستيلاء على ارض وثروة شعب آخر، لكن هؤلاء العلماء لم يتوصلوا بعد الى صيغة علمية توحّد العقاب بين هاتين الفئتين. ومع قناعتهم بأن الحروب، مهما كانت اسبابها ومبرراتها، تدخل في اطار الجريمة البشعة كجريمة القتل الفردي، الا انهم وقفوا عاجزين امام اصدار حكم عادل على الحروب وعلى الذين تسببوا فيها، لأن المنتصرين في هذه الحروب هم الذين يسنّون القوانين التي ترفع قتلة الحروب -كل الحروب- الى مصاف الابطال الشرفاء، وتجعل المهزومين أشراراً يستحقون الابادة بمختلف الوسائل لإنقاذ البشرية من شرورهم.

في هذا المجال، فإن شاعراً عربياً (نسيت اسمه) سبق الجميع في تحديد المسافة بين القاتل والمقتول عندما قال:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تـُغتـَفر

وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

ما دفعني الى الكتابة في هذا الموضوع هو تعليق نشرته جريدة «الدايلي ستار» اللبنانية في الاسبوع الماضي تعليقاً على زيارة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني الى المنطقة العربية. والجريدة المذكورة معروفة بانتمائها لسياسة البيت الابيض، وهي الجريدة الوحيدة الناطقة بالانكليزية قلباً وقالباً في لبنان. وقد «عنونت» تعليقها بما ترجمته: تشيني يعود إلى مسرح الجريمة، ويتفق الكثيرون من المحللين السياسيين العرب والاجانب على مدلول هذا المقال، ولا يختلف اثنان على الدور الكبير الذي أداه تشيني في اختلاق المبررات وتحوير الوقائع، وتحويل الاكاذيب الى حقائق لغزو العراق واعادة هذا البلد العربي النامي الى العصر الحجري، وبالتالي شن حرب ابادة، ما زالت مستمرة منذ سنوات، ضد شعبه من اجل قبضة من براميل النفط. وبالرغم من ذلك فإنه يُستَقبل في منطقتنا استقبال الابطال المغاوير، وتُفتح له ابواب القصور والسريات، وتـُفرش له البُسط الحمراء، وتـُنثر على قدميه زهور المغنوليا والكاردينيا، بالاضافة الى مختلف انواع الورود النادرة. فلماذا جاء تشيني الى منطقتنا وهو على قاب قوسين او ادنى من الخروج «المظفـّر» من البيت الابيض؟.

في هذا المجال تختلف التعليقات والاقوال عن سبب الزيارة. منها ما يشير الى انه يسعى الى اختتام حياته السياسية بمجزرة اخرى تستهدف ايران والمنطقة العربية برمتها هذه المرة، ومنها ما يقول انه جاء ليقبض ثمن ما صنعت يداه عن طريق ضمان تدفق الثروة النفطية الى شركات النفط والسلاح الاميركية التي اختارته في الاصل ليكون في المركز الثاني في صناعة قرار الحرب الاميركي، ليقوم بهذه المهمة التي نفّذها بنجاح منقطع النظير، والحقيقة ان تشيني قام برحلة الايام العشرة من اجل هذين السببين مجتمعين. لكن تقارير الصحافيين وتحليل المحللين السياسيين تشير الى انه لن يلاقي النجاح المطلوب. ففي سلطنة عُمان اصطدم باستراتيجية السلطان قابوس التي ترفض الانجرار وراء الرغبة الاميركية في اظهار العداء العسكري لإيران، وهي استراتيجية مارسها السلطان قابوس منذ ان تسلم الحكم من ابيه قبل نحو ثلاثين سنة، إذ نهض بالبلاد، ارضاً وشعباً، الى مستوى الحضارة المطلوبة، وهو ما زال في بداية الطريق. اما في المملكة العربية السعودية فإن تشيني لاحظ تغيراً جذرياً في اسلوب المخاطبة، فقد كان يأمل ان يسمع هناك ما كان يسمعه في السابق: نعم .. ولكن! لكنه هذه المرة سمع شيئاً مغايراً: لا .. ولكن!، وككل فاتح في التاريخ القديم والحديث فإنه يكره، حتى الثمالة، كلمة «لا» النافية، ولو كانت مصحوبة بـ«ولكن».

اما في العراق فقد واجه صعوبة تصل الى نقطة الاستحالة في ايجاد صيغة تخرجه من الأوحال نظيف اليدين والوجه، غير ان زيارة اسرائيل كانت بالنسبة له بمنزلة «استراحة المحارب». لكنه تركها وهو اكثر قلقاً على وضعها المستقبلي، لأن الولايات المتحدة باتت شبه عاجزة عن تقديم الحماية الكاملة للدولة الصهيونية في ظل الاوضاع المتفجرة في العالم العربي نتيجة المتغيرات غير المسيطر عليها كما كانت تفعل في السابق.

وعند عودته الى واشنطن سيواجه تشيني جيشاً من النقـّاد. فهو لم يتمكن من اقناع الدول العربية المنتجة للنفط بزيادة الانتاج للسيطرة على ارتفاع الاسعار الجنوني، كذلك فشل في استخدام نفوذه الشخصي لدى أصحاب الحل والربط في هذا المجال، بينما كان رئيسه بوش يأمل نجاحه، وهو السبب الرئيسي الذي دفع بوش الى ارساله إلى المنطقة. وبالاضافة الى فشله ايضاً في ايجاد الصيغة التي تناسب واشنطن في العراق، فإن اصواتاً اميركية ستتصاعد، وربما تكبر، الى ان تصل الى درج المحكمة العليا الاميركية، ففي ولاية «فيرمونت» بدأت كرة الثلج تتدحرج، إذ قررت بلدتان صغيرتان جنوبيتان بالتصويت الاكثري اقامة الدعوى على بوش وتشيني بالاسم بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الدستور»، ويقول منظِّم هذه الحملة الناجحة انه من الممكن تقديم الرئيس ونائبه الى المحكمة، لكنه يأمل أولاً في عزلهما قبل تقديمهما الى المحاكمة الجنائية.

في ظل هذه المتاعب التي تواجهها الادارة الاميركية في رأسي الهرم، يصرّ السؤال التالي على طرح نفسه: هل يُقْدم بوش وتشيني على ارتكاب حماقة عسكرية جديدة في الشرق الاوسط لتغطية الفشل الداخلي والخارجي؟!.

* كاتب لبناني

back to top