جحر واحد وثلاث لدغات
تفاعل العرب مع الولايات المتحدة مرتين خلال فترة رئاسة بوش التي روجت فيهما لقيام دولة فلسطينية، أولاهما قبل ضرب أفغانستان والأخرى قبل غزو العراق، وأسفرت النتائج عن لا شيء، بل زادت الأوضاع في المنطقة سوءاً، وتسعى الإدارة الأميركية إلى الترويج مرة ثالثة عبر مؤتمر «أنابوليس» للفكرة نفسها، فهل يُلدغ العرب من جحر ثلاث مرات؟
لا يُلدغ العاقل من الجحر مرتين، لكن يبدو أن العرب مصرون على أن يُلدغوا من الجحر نفسه ثلاث مرات، إما عن نسيان أو تراخ ٍأو تواطؤ، لكن النتيجة واحدة دوما وهي حصاد الهشيم، وقبض الريح، والعودة بخفّي حنين. أقول هذا بمناسبة اقتراب موعد انعقاد مؤتمر أنابوليس للسلام الذي تستضيفه الولايات المتحدة الأميركية أواخر الشهر الجاري، حيث يروج بعض العرب أوهاما عن أنه سيكون علامة فارقة في تاريخ المنطقة، أو أنه على الأقل سيأتي للفلسطينيين بما لم تأت ِبه المؤتمرات الأوائل، وما أكثرها. فهناك حديث يدور حاليا عن رغبة أميركية في التوصل إلى اتفاق قبل نهاية الفترة الرئاسية لجورج بوش، يتضمن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، على أن يؤجل تنفيذه إلى حين تصبح السلطة الفلسطينية أصلب عودا، وأشد مراسا. وهناك تسريبات صحفية إسرائيلية عن أن إيهود أولمرت اتفق مع أبو مازن على عودة عشرين ألف لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل. والمقابل الذي تريده أميركا وإسرائيل من هذا هو «إنهاء الصراع»، أي فتح باب التطبيع على مصراعيه، وطي صفحة الماضي، وكأن أرضا لم تُحتل، وأرواحا لم تُزهق، وأعراضا لم تُنتهك، وعداوات لم تسر ِفي النفوس قرابة قرن كامل. ومن أسف ننسى أن مثل هذا الحديث قد سمعناه مرتين من قبل وصدقناه، وذهبنا في تصديقه إلى أقصى حد، وتعاملنا معه بأعلى إيجابية ممكنة، ثم لم نحصل على أي شيء. المرة الأولى كانت عقب حدث 11 سبتمبر الشهير، حيث أطلقت الولايات المتحدة متكاملة الأركان على «الإرهاب الدولي» وكانت تحتاج إلى وقوف العرب إلى جانبها، فتحدث الرئيس بوش عن «دولة فلسطينية» تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتلفظ فيها بهذا المصطلح، ويعد فيها بذلك الوعد. وصدقه العرب فتعاونوا أمنيا بشكل كامل مع واشنطن، التي ذهبت إلى حد شن حرب على أفغانستان انتهت بإزاحة حركة «طالبان» عن السلطة وتشتيت تنظيم «القاعدة». وانتظر العرب أن يفي بوش بوعده، لكنه أطبق فكيه على لسانه، والتزم بصمت مطبق.والمرة الثانية كانت قبيل غزو العراق، فوقتها عاد بوش ليتحدث عن «دولة فلسطينية» من جديد. وكان الهدف أيضا هو حاجته إلى العرب ليقفوا إلى جوار بلاده في تلك الخطوة الفارقة في تاريخ المنطقة. واعتقد الجميع أن ثمن الإطاحة بنظام صدام حسين هو إقامة دولة للفلسطينيين، فغضوا الطرف عما سيحدث، خصوصاً أن صدام كان قد تصرف على مدار 12 عاما بما لا يجعل أحداً يتعاطف معه أو يسانده أو يرى فائدة في استمرار نظام حكمه. ووضعت الحرب أوزارها، وعض بوش على لسانه من جديد، بل تمادت إسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، فاغتالت رموزهم، من أحمد ياسين إلى ياسر عرفات، وتوسعت في بناء المستوطنات، وتجريف الأرض، ثم بنت جداراً عنصرياً عازلاً، يخنق شعباً بأكمله، ويحول أرضه التي تتآكل إلى «غيتوهات» أو «كانتونات» متقطعة الأوصال. وهذه المرة يبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تجهز لعملية حاسمة ضد إيران، بعد إصرارها على مواصلة تخصيب اليورانيوم واستكمال برنامجها النووي. وتحتاج واشنطن في هذا إلى العرب من جديد، ربما للمساهمة في تمويل تكاليف الحرب، أو فتح أرضهم لتكون قاعدة انطلاق كبيرة للعملية العسكرية إن اتخُّذ قرار بشنها، أو تقديم معلومات أمنية واستخباراتية عن إيران من الداخل، تسهل اختراقها وتقويض مناعتها. وقد أدرك العرب في البداية أن الحرب ضد إيران ليست في مصلحتهم، ودعوا جميعاً إلى ضرورة حل المشكلة القائمة بين واشنطن وطهران بالطرق السلمية. وعلى التوازي طالبوا بضرورة أن يخرج مؤتمر «أنابوليس» بحلول حقيقية للصراع المزمن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأبدوا تشككهم في نوايا الولايات المتحدة وإسرائيل من هذا المؤتمر، لاسيما أن الشواهد على الأرض تتناقض مع الأقاويل عن السلام وحل الصراع. لكن الأيام تمر، والمؤتمر يقترب، ولا نجد شيئاً مطروحاً أمامنا سوى الكلام المخادع والوعود، التي ليس هناك ما يضمن ألا تكون كاذبة. وإذا تفاعل العرب معها بإيجابية جديدة، على غرار ما فعلوا قبل احتلال أفغانستان والعراق، فليس هناك ما يمنع أن يُلدغوا من هذا الجحر الأميركي الإسرائيلي مرة ثالثة. * كاتب وباحث مصري