في شريطه السينمائي اللطيف «السفارة في العمارة»، يجلس عادل إمام مع أصدقائه، في عوامة على النيل، يدخنون الحشيش، ويشاهدون حلقة من برنامج مناظرات تليفزيوني شهير على إحدى الفضائيات، فيما تتفاعل قضية الفيلم الرئيسة التي تدور حول إمكانية «التطبيع» و«التعايش» مع الإسرائيليين في مصر.

Ad

يلعب عادل إمام في الفيلم شخصية «المهندس شريف»، الذي لا يحفل بالشؤون العامة على الإطلاق، وتتلخص اهتماماته كلها في مسائل شخصية ذات طابع حسي في الغالب، يتفرغ لها بحواسه كلها، عازفاً عن الانخراط أو التفكير في أي من القضايا ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي، طالما كانت لا تمسه مساً مباشراً.

«المهندس شريف»، الذي رفع للتو قضية ضد السفارة الإسرائيلية، لإجبارها على التخلي عن الشقة المجاورة لشقته، يسحب أنفاساً عميقة من أرجيلته، فيما يتحدث ضيف البرنامج الأول، مندداً بقوة بالسياسات الداعمة لعملية التطبيع، ومذكراً، بحرقة، بـ «الجرائم المتكررة التي ارتكبها، ويرتكبها، الإسرائيليون في حق الشعوب العربية»، وهو ما يعلّق عليه بطل الفيلم بهدوء شديد وثقة واطمئنان: «الراجل دة بيتكلم كلام زي الفل». ينتقل الحديث إلى الضيف المناظر، الذي يقول بهدوء وبساطة: «على فكرة يا جماعة ليست هناك حالة حرب الآن بيننا وبين إسرائيل»، وهو القول الذي علّق عليه «المهندس شريف» أيضاً بقوله: «الراجل دة كمان بيتكلم كلام زي الفل».

والواقع أن «المهندس شريف»، ربما عن غير قصد، قدّم لنا المثل الأوضح على إحدى التقنيات التي يفرزها الاستخدام المُسيء للقدرة الإعلامية في عصرنا؛ وهي تقنية «التفكير المزدوج» Double Think ، إذ يصدّق المرء وجهتي نظر متناقضتين حول أمر واحد، ويصبح غير قادر على فرز الحجج واختيار الأصلح، بل يصبح منقاداً مستسلماً لأي حجة، أو شبه حجة، مصوغة بعناية، مهما كانت متناقضة مع واقع الحال، أو مع حجج أخرى كثيرة يؤمن بها أيضاً.

ونتيجة لخضوعك لـ «التفكير المزدوج»، فأنت تعرف ولا تعرف في آن واحد، تؤمن بحقيقة تعتبرها صادقة كل الصدق، لكنك تؤمن، في الوقت ذاته، بـ «حقائق» تناقضها تمام التناقض. لديك في اللحظة ذاتها وجهتا نظر متباينتان، وأنت تعتقد، وتؤمن، بهما كلتيهما، وتستخدم المنطق ضد المنطق، وربما تنكر الشيء بينما تدعيه، وتنسى ما تدعو الضرورة أن تنساه، ثم تستعيده إلى الذاكرة في اللحظة التي تحتاج فيها إليه، ثم تعود فتنساه مرة ثانية.

والأنكى من ذلك كله، أن يمس «التفكير المزدوج» إدراكك لذاتك نفسه، ومفهومك لدورك أيضاً؛ فأنت، أو أسرتك، أو أمتك: ضعفاء، مهزومون، متواكلون، سلبيون، حاقدون، وفي الوقت نفسه أنت تصدق وتعتقد تمام الاعتقاد العكس؛ فأنتم: أقوياء، منتصرون، مجتهدون، أصحاب نخوة وعزة، مستهدفون من الأعداء.

وكما قال جورج أورويل، فإن «التفكير المزدوج» يسلب الإنسان ملكة التفكير، ويفقده القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ويحوله كائناً منقاداً متذبذباً بلا هوية واضحة أو انتماء لنسق فكري محدد، يمكن أن يهدي صاحبه في حالات الغموض أو الخطر أو عند الرغبة في تكوين الفكرة أو اتخاذ القرار.

ولا شك أنه من الصعب جداً تعداد الآثار السلبية للعديد من الممارسات الإعلامية غير المسؤولة في واقعنا الإعلامي والاجتماعي الراهن، لكن استخدام تقنية «التفكير المزدوج»، سواء عن قصد أو غير قصد، تعد أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الجمهور جراء هذه الممارسات وأكثره قسوة على الإطلاق.

فعن قصد أو نتيجة لاستسهال، رسخت وسائل إعلام عديدة تلك التقنية في تعبيراتها المختلفة، وسواء كانت هذه الوسائل مكتوبة أو مرئية أو مسموعة؛ فقد اتفقت جميعها على تعزيز هذه التقنية، حتى بات البسطاء من الناس، تحت وطأة التعرض المنتظم للكتابات والبرامج من هذا النوع، كالمرضى النفسيين.

وحتى تستكمل الممارسة الإعلامية تلك أسبابها، فقد نظمت كتائب من المصادر أو الضيوف الذين أتقنوا اللعبة جيداً، وراحوا يمارسونها يومياً بدم بارد، بل ويبنون شهرة وثراء جراء احترافهم هذه الصنعة، في ظل زيادة في الطلب كبيرة، على خلفية الانتعاش الذي تشهده صناعة الإعلام وسوقه.

يمارس هؤلاء لعبتهم المفضلة المدفوعة، بالتناقض والتناطح بالعبارات المصوغة بعناية والفارغة من كل سياق أو مضمون واضح؛ عن السلام أو الحرب، الرفاهية أو الفقر، حنكة القائد أو خطله، وعز الأمة أو هوانها.

سياسيون ورجال أعمال وفنانون ورياضيون ومحللون وباحثون يتحدثون إلى وسائل الإعلام على مدى الساعات والدقائق، يتناقضون ويتصارعون ويختلفون أو يتفقون، ويصوغون حججاً متضاربة متناطحة على الدوام، في أمور ثانوية أو جوهرية وشديدة الخطورة، والبسطاء من الناس يقتاتون على هذا «التفكير المزدوج»، ثم ما يلبثون أن يتحولوا أشخاصاً مسحوقين، يعتقدون بصحة كل ما يسمعون أو يقرؤون، طالما كان مطبوعاً في صحيفة أو مذاعاً على أقنية البث، ومهما خالف هذا قناعات أخرى راسخة وماثلة في حياتهم، ومهما تناقض مع ما تقول به مؤسسات أخرى أكثر صدقية وأوثق صلةً.

وعلى عكس ما يخشى البعض من علماء الاجتماع والسياسة، فإن أكثر الآثار المترتبة على التعرض لرسائل إعلامية غير مسؤولة ضرراً لا يتعلق بنواحٍ أخلاقية أو اقتصادية أو سياسية محضة، ولكنه على الأرجح يتعلق بتأثير أكثر قسوة؛ إذ يفتك بروح الإنسان ذاتها وقدرته على التمييز والفرز، التي تميزه عن غيره من الكائنات الأدنى، ويحوله ببساطة جسداً بلا عقل يميز أو روح ترشد... وأذناً تسمع دون قلب يعي، ولساناً يعلق دائماً: «ده كلام زي الفل».

* كاتب مصري