سألني شاعر صديق، يصغرني سنّاً، عن هذه «الموسيقى الداخلية» التي يتحدث عنها الشعراء والنقاد بغلو هذه الأيام، ماذا تكون وكيف تكون؟

Ad

كنتُ أعرف أن صديقي الذي يصغرني سنّاً، لم يجرؤ على سؤالي لولا طمأنينته بأني لن آخذ تشككه مأخذ اللائم، ولن أعرضَّه لتهمة الجهالة والتخلف واللاحداثة، كنت أعرف أنه مُطمَـئِن إلى أني كثير الشكوك في معظم ما يشيع بيننا من مصطلحات ومفاهيم لم تخرج حقا من ينبوع خبرتنا الشعرية، ولا خبرتنا النقدية.

قلت له إن حديثهم عن «الموسيقى الداخلية» يعني إقرارهم بوجود «موسيقى خارجية»، فما هي ترى؟

لقد خبرتُ معظم شعرائنا ونقادنا، في كتاباتهم وفي حياتهم، فوجدتُ دربة الأذن لديهم تكاد تكون معدومة، ومعرفتهم الموسيقية تظاهرية خاوية، لا يحسنون معرفة الفارق بين الإيقاع واللحن، أو بينهما وبين الهارموني، أما طبقات الحنجرة الغنائية، والفارق بين الرباعية الوترية وسوناتا الفايولين، وشكل السوناتا الصارم المركَّب، وشكل المقام الثلاثي في الأغنية الشرقية، فأمور لا تخطر على بال، وخبرة الأذن في هذا الحقل هي المفتاح الوحيد لحساسيتها في إدراك الفارق بين إيقاع الأوزان الشعرية، وبين موسيقى الشعر.

فإذا كان أحدهم لا أذن لديه لالتقاط الصوت الموسيقي والدلالة الموسيقية، وهما قرينا الشعر، ولا أذن لديه لالتقاط الفارق بين إيقاع الأوزان وبين موسيقى الكلمات الشعرية التي يمليها دفق الشاعر الداخلي على ذلك الإيقاع، كيف يمكن أن يلتقط «موسيقى داخلية» تخفى حتى على ذي الدربة الموسيقية؟ موسيقى داخلية تفلت من ضوابط الإيقاع واللحن والهارموني. ألا تذكّرك هذه «الموسيقى الداخلية» الخفية بثياب الإمبراطور الجديدة في حكاية أندرسن الشهيرة؟

إن وراء ثياب الإمبراطور، التي لا تبين للعين المجردة بفعل رقة خيوطها ونسيجها، ذكاءُ نساجين محتالين، وغفلة جمهور لا يُحسن مقاومة غسل الدماغ الجماعي، ولا المخاوف من إدانة السلطان، وشأن هذه «الموسيقى الداخلية» التي لا تتضح للأذن المجردة كشأن تلك الثياب تماما. فوراءها احتيال حداثي، مُعزََّز بالتهم الجاهزة في إدانة القارئ بالتخلف وقلة الدراية.

هناك في حاسة السمع جانب خفي لإدراك التدفق الموسيقي في اللغة، تُحسُّه الموهبة الشعرية، حتى في حالة انعدام ميلها للموسيقى الآلية، أو عدم معرفتها الدقيقة للبحور الشعرية. وهي حالة نادرة بالتأكيد. هذه الحاسة تعرف الفرق بين الأوزان السنتيميترية التي تضبط إيقاع الصوت الموسيقي، تماما كما تضبط آلة الطبلة الإيقاع في الموسيقى الشرقية، أو المايسترو في الموسيقى الغربية، وبين الموسيقى الشعرية التي تتولد عن الكلمات، الجمل، المخيلة، المشاعر، تحت رعاية ضابط الإيقاع، وبدافع منه أحياناً كثيرة.

إن قصيدة للمتنبي تنتمي الى بحر الخفيف (مثل: إنْ أكنْ مُعجبا فعُجبُ عجيب/لم يجدْ فوق نفسه من مزيدِ)، ستبدو لهذا الخفي من حاسة سمع الشاعر منتسبَة الى موسيقى مختلفة تماما عن الموسيقى التي يجدها في قصيدة ابن الرومي من البحر الخفيف ذاته (تركتْني، ولم أكن أحسنُ الظنَّ/ أسيء الظنونَ بالأصدقاءِ). وكلا الصوتين مختلفان عن موسيقى أبي نؤاس في (دبَّ فيَّ السقام سُفلا وعُلْوا/ وأراني أموت عضواً فعضوا). الموسيقى في طبول المتنبي غيرَها في قيثارة ابن الرومي الهامسة، وغيرها في ترتيلة أبي نؤاس.

الذي لا يُحسن الإلمام بهذا الفيض المتنوع الألوان، والمُركَّب الدرجات للموسيقى الشعرية المسموعة يهرب، عن طريق الإيهام، إلى «موسيقى داخلية» غير مسموعة من قِبل أذن خبير الموسيقى والأوزان والألحان الشعرية.

وهذا الإيهام يختلف بالتأكيد عن زعم الفيثاغوريين والمتصوفة العرب، بقدرة أحدهم على سماع ما يسمونه «موسيقى الأفلاك»، التي تصدر بفعل حركة الأفلاك الرشيقة المنسجمة. فهؤلاء يتسامون إلى هذه المقدرة التعجيزية على سماع الموسيقى السماوية، بدءا من الموسيقى الأرضية التي تصدر عن آلات يعزفها الإنسان. فهم يحسنون هذه كما يُحسنون تلك، وشتان الذي بينهم وبين من لا يُحسن تمييز الإيقاع عن اللحن!!