الآخر وفردوسه الضائع

نشر في 22-02-2008
آخر تحديث 22-02-2008 | 00:00
 محمد سليمان العلاقة الملتبسة بالآخر كانت ولاتزال أحد أهم محاور الفكر والإبداع العربي والعالمي، فالآخر هو الغائب الحاضر دائماً، وهو الجحيم والنعيم الضائع، وهو الذات ونقيضها، وهو أيضاً حافز أصيل للتشبث بالوجود والاستمتاع به. غيابه يعني الضياع والانقطاع والوحشة ومن ثم هشاشة الوجود، وحضوره يعني الدفء والتوهج والصراع من أجل البقاء والارتقاء لذلك ظل الآخر بصوره العديدة وتحولاته محوراً جاذباً وغنياً يشد الشعراء والكتّاب ويجبرهم على الانشغال الدائم به وإعادة اكتشافه.

والكاتب ج.م.كوتسي روائي وناقد وأكاديمي جنوب أفريقي يعيش في أستراليا حصل على جائزة نوبل عام 2003، وهو الكاتب الوحيد الذي حصل جائزة البوكر مرتين الأولى عن روايته «حياة مايكل ك. وأوقاته» عام 1984 والأخرى عن روايته «العار» عام 1999. وروايته الأخيرة «الرجل البطيء» صدرت عام 2005 وترجمها إلى العربية الشاعر عبدالمقصود عبدالكريم وأصدرتها الهيئة العامة للكتاب «سلسلة الجوائز» في آواخر 2007 والرواية تضعنا منذ البداية في قلب العلاقة الملتبسة بالآخر، فبطلها «بول ريمنت» الذي تجاوز الستين من عمره يعيش وحيداً معتمداً على مدخراته وراتب التقاعد متحاشياً الاحتكاك بالآخرين «الجحيم» أو الاقتراب منهم، لكن سيارة مسرعة يقودها شاب أرعن تطيح به وتهشم ساقه ودراجته وكل قناعاته التي عاش واحتمى بها «تطيح به صدمة من اليمين حادة ومفاجئة ومؤلمة كصعقة كهرباء ترفعه بعيداً عن الدراجة... اهدأ يحدّث نفسه وهو يطير في الهواء... در كقط واقفز على قدميك... لكن الأمور لا تجري على مايرام فلا يقفز على قدميه أبداً فقط يتدحرج متراً بعد آخر حتى يخمده التدحرج تماما».

في المستشفى بعد بتر ساقه المهشمة كان عليه أن يوقع بعض الأوراق وكان السؤال الصعب يتعلق بأفراد أسرته، وأين يعيشون، له أب وأم وأخت لكنهم موتى وكان متزوجاً في يوم من الأيام لكن زوجته فرت منذ زمن بعيد... وكان عليه أن يكتب في أوراق المستشفى أنه بلا أسرة غير متزوج مفرد ووحيد لكي يتراجع الأطباء وتظهر اختصاصية اجتماعية تخبره بأسلوب مرح تعلمت استخدامه مع المسنين «مستر بول مازلت شاباً لكنك ستحتاج عند خروجك من المستشفى إلى ممرضة متخصصة سنساعدك في توفيرها، وعلى المدى البعيد ستحتاج أيضاً إلى شخص ما بجانبك يقدم لك العون» هكذا يكتشف بول ريمنت أنه قد أصبح عجوزاً عاجزاً وبحاجة إلى الآخر الذي فر دائما منه وتحاشى الاحتكاك به. ويتجسد هذا الآخر أولاً في ماريانا الممرضة التي أرسلتها الاختصاصية إلى منزله، وثانياً في أسرتها التي ينشغل بها بول ريمنت ويتمنى في النهاية أن يصبح أحد أفرادها.

ماريانا امرأة في منتصف العمر رزينة ومن أصل كرواتي متزوجة ولديها طفلة وابنة في المدرسة المتوسطة وابن في المدرسة العليا، بالإضافة إلى تدليك العضلات الضامرة وغسل جسده وتطهير جرح الفخذ وإعداد الطعام كانت ماريانا تثرثر عن أسرتها وأحلامها ومعاناتها وطفولتها في كرواتيا، ولم يكن لدى بول شيء يثرثر عنه، فهو بلا أسرة أو أقارب أو معاناة الأمر الذي يدفعه إلى تأمل رحلته الحياتية ليكتشف أنه لم يعش، وأن وجوده كان هشّاً وهامشياً وغير مؤكد، فالوجود لا يؤكده ويرسخه سوى الآخر الجار الصديق العدو أو الأسرة «لو كان لي ابن» يحدّث نفسه عندما تثرثر ماريانا وتريه صورة ابنها الشاب، وهذه الثرثرة كانت باباً قفز منه إلى صخب الحياة محاولاً تأكيد وجوده والغوص في الآخر أو الالتصاق به والانتماء إليه، الآخر هو الملاذ والمأوى ولكي يكون وجودك مؤكداً عليك أن تكون فعالاً مغامراً ومفيداً.

يكتشف بطل الرواية ببطء بعد أن بدّد معظم حياته على الحافة في زنزانة الخوف والحرص والحياة مع الموتى من أفراد أسرته وعندما تثرثر ماريانا عن رغبة ابنها في الالتحاق بالجامعة وعجزهم عن تدبير المال اللازم لتحقيق أحلامه يعلن استعداده لتحمل نفقات الدراسة ويحرر شيكاً بالمبالغ المطلوبة، فأسرة ماريانا أصبحت بديلاً لأسرة لم يبنها بسبب الخوف والبطء والحرص، ومن ثم عليه أن يضحّي بمدخراته لكي يرسخ وجوده والتصاقه بالأسرة البديلة، لكن حلم الالتصاق بالآخر ودخول فردوسه ينهار في النهاية بسبب الشائعات التي تناثرت عن علاقته بالممرضة وسعيه إلى إقصاء زوجها والاستيلاء على أسرته، الأمر الذي يدفع الزوج إلى رفض مساعداته ومنحه المالية والزوجة إلى التخلي عنه وترك عملها كممرضة له تعينه على اجتياز محنته وتأكيد وجوده.

* كاتب وشاعر مصري

back to top