واحة بلا عيون!!
هأنذا أنحدر باتجاه الكويت وقبل أن أهبط إلى حضن حبيبتي الأولى، الجهراء، وهي تلوح لي بذوائب (أعشاب) النخل و(تلفح) كالعروس في الهواء، أتوقف قليلا على ربوة (الأطراف)، وكأنني ألمح آثار خفاف الابل وخطوات اقدامي العارية في سني الفقر والترحال. وهي لم تخل ماثلة على أديم التراب الذي طالما غنيت له حتى البكاء، شبحت بنظري نحو القرية البيضاء، التي كانت يوما اسمها الجهراء، وها هي (كاظمة) القديمة تقبع خلفها على البحر اذ يتلألأ ساحل كاظمة المتماوج مع طلعة الشمس، حيث يشق بردَ الصباح شراعٌ بعيدٌ توغل في لجة البحر، صاح صوت بأعلى السفينة (يا ليل دان) تردد في جبل المطلاع لحن كئيب. ورحت أغني معه:
يا نسيم الصبح من كاظمة شد ما هِجت الأنس والفرحا يا نداماي بسلع هل أري ذلك المغبق والمصطبحا اذكرونا مثل ذكرانا لكم رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صباً إذا حنّ لكم شرب الدمع وعاف القدحا ولست أدري كيف تذكرت (مالك من الريب) قبل أن أتذكر (مهيار الديلمي) ورحت اقتفي خطاه حينما ضاقت الارض به: فتحت اشداقها المدن المرعبة والحواري التي غيّبته طويلا وعانق رمل الشوارع حتى الوله أحب سواحلها اللؤلؤية مثل النوارس وأدمن حدّ الجنون شعاراتها الرثة الكاذبة صار مثل اليتيم على المأدبة ولما انحنى الظهر منه نفته المدائن واستنكرته وأُفرِد مثل البعير المعبد أقعى كذئب عجوز على الهضبة تنفس كمية من غبار الحنين تذكر أمجاده الغاربة وعوى: «هو الموت خير للفتى من حياته عديما ومن مولى تدب عقاربه» سألته القبابر وهو يغادر من جهة «السيدان» إلى أين تمضي؟ أجاب: (وسائلة أين الرحيل وسائل من يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟) ** يمم الوجه صحراءه اللاهبة (بيوم من الجوزاء يستوقد الحصى تلوذ بأعضاد المطايا جخادبه) فتح «الدوّ» ذراعيه وامتدت «الدبدبة» تراءت عروق النفود ولاحت بموج السحاب وجوه الصعاليك والأغربة وكان يردد طول الطريق ليمسح بيداءه المجدبة: (ودويّه قفراء يحار بها الردى سرت بأبي النشناش ليلاً ركائبه) ليدرك ثأرا أو ليكسب مغنما ألا إن هذا الدهر تترى عجائبه عجائبه عجا.ئبه. ابه ابه انحدر من ربوة الأطراف كالسهم وهو يعدو مثلك، السُّلَيك يتطاير شعره باتجاه حبيبته القديمة الجهراء التي تفتح أشجارها بوجهه لأذرعه ثم تضمه إلى الصدر ليمارسا البكاء معاً على زمن تولى كانت فيه الجهراء: «واحة الجهرا بها يشفى العليل واحة فيها الصبايا يلعبون» لأن الجهراء لم تعد واحة. والصبايا تلفّعن بالسواد ولم يبق منهن إلا العيون، لذلك دخل أحد «المولات الجديدة» ووضع رأسه بين يديه على أول طاولة فيها وانخرط بالنحيب.