كما خلق الله الأرض يرجعها إليه من جديد، وبعد أن يمتحن الإنسان عليها ويختبره فيها تظهر النتيجة في النهاية بعد أن تنتهي حياة الإنسان عليها، وهو يوم لا يأتى إلا بغتةً، وعلامته انتهاء الاختبار، وحينئذ تُبدل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، فالأرض جميعاً في قبضته يوم القيامة.ذكرت الأرض في القرآن عدة مرات (461 مرة)، فهي أحد الموضوعات الرئيسية فيه وليست موضوعاً هامشياً، وذكرت معرّفة بالألف واللام في معظم الحالات أي انها ليست ملكاً لأحد أو تـُنسب لقوم، ومعرّفة بضمير الملكية (خمس مرات)؛ ضمير المتكلم الجمع «أرضنا» (ثلاث مرات)، وضمير المتكلم المفرد «أرضي» (مرة واحدة)، وضمير الغائب الجمع «أرضهم» (مرة واحدة)، فالأرض لنا، نحن المسلمين، ولي، الفلسطيني القابع فيها منذ آلاف السنين، ولهم، المطرودون الغائبون عنها تحت اسم اللاجئين. وذكر لفظ «الأرض» مجروراً بالإضافة (331 مرة) أكثر منه منصوباً أي مفعولاً به (86 مرة) أي أنها مجال الفعل، والأقل هو الفاعل (34 مرة)، فالأرض لا تفعل بنفسها بل تتلقى فعل الأفراد والجماعات عليها.
وقد ذكرت هذه الآيات المئات في ست مجموعات: خلق السموات والأرض ونهايتهما، ملك السموات والأرض وميراثهما، اتساع الأرض واستقبالها الفعل الإنساني، تسخير الأرض للإنسان، إعمار الأرض والاستقرار والسكن فيها، إحياء الأرض بما فيها من نبات وحيوان.
في القرآن الكريم الله إله السموات والأرض في عديد من الآيات مثل «إله السموات والأرض»، «رب السموات والأرض»، «هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله». فمن استولى على الأرض فقد استولى على السماء أيضا لأنهما قرينتان. ومن استولى على الأرض فقد استولى على نصف الربوبية لأن الربوبية في السماء والأرض. السموات والأرض كيان واحد قبل أن ينفصلا «أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما». لذلك تحدث الصوفية عن الرتق والفتق الروحيين، في الضم والجمع والتوحيد.
والأرض والسموات مخلوقتان «وهو الذي خلق السموات والأرض»، مفطورتان أمام العين، مبسوطتان. وقد خلقت في ستة أيام دلالة على التدرج في الفعل، وإيحاء بأهمية المراحل من دون القفز فوقها، فكل شيء يحتاج إلى زمان لأن الخلق في الزمان.
والسماء والأرض قائمتان ولا تزولان إلا بأمره «ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره». لا يستطيع أحد تدميرهما حتى لو امتلك أقوى القنابل الذرية وأشدها فتكاً «إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا». والله يمسكهما معاً «ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه».
وقد تم هذا الخلق بالحق، لذلك وحّد الصوفية بين الحق والخلق، «وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق»، فالأرض حق تخرج عن دائرة الباطل «وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا». السكن فيها بالحق وليس بالعدوان، فالحق لا يتعامل إلا مع الحق وليس مع الباطل، لذلك ينزل عليها الوحي، إحقاقاً للحق واعترافاً به «تنزيلاً ممن خلق الأرض». الوحي تكملة للخلق «قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض»، والأرض مهبط الوحي وليس الزيف والبطلان والدعاوى الكاذبة والأساطير العنصرية العرقية بأحقية شعب معين بالسكن فيها والاستيطان عليها، ولم تخلق الأرض عبثاً ولعباً «وما خلقنا السموات والأرض بينهما لاعبين»، بل لتحقيق هدف وغاية.
والله يعلم ما في السموات وما في الأرض «وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء»، ولا سر في العلم «ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض»، ومهما بلغ الإنسان من السرية في قوله وفعله فإن الله مطّلع عليه، وعالم بالأهداف غير المعلنة. الله يغمر الأرض والسماء بنوره «الله نور السموات والأرض»، وتعكس الأرض هذا النور بفعل الإنسان وتحقيق رسالة الله في الأرض.
وقد خلقت السموات والأرض للتفكر فيهما وللاتعاظ بهما، فهما من الآيات أي الدلائل والمؤشرات «أو لم يسيروا في الأرض فينظروا»، والاعتبار يحتاج إلى لب وفؤاد وبصر وبصيرة «إن في خلق السموات والأرض... لآيات لأولي الألباب». فإدراك الآيات في الأرض مشروط بالوعي الذاتي «وكأي من آية في السماء يمرون عليها»، والأرض ليست فقط للاستيطان بل للتأمل والتفكر في المصير، ومع أن موضوع الاستدلال بديهي «أفي الله شك فاطر السموات والأرض» إلا أنه يحتاج إلى الاستدلال ليطمئن القلب ويهدأ الفؤاد، فالقلب يعقل «أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها». يكفي السير في الأرض «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق»، وإنكار الحقائق البديهية مكابرة واستعلاء.
وفي مقابل ذلك تسبّح الأرض والسماء بذكر الله، وبالتالي يستحيل أن تكون مسرحاً للفساد؛ للقتل والذبح والتدمير للنسل والزرع، للأطفال والنساء وللشباب والشيوخ «تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن»، وتسبيح الأرض بتعميرها واخضرارها ونمائها وليس بتدميرها وتجريفها.
والله وحده هو الجدير بالعبادة في الأرض «ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض»، «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض»، والعبادة تحتاج إلى الصبر والاصطبار «رب السموات والأرض وما بينهما، فاعبده واصطبر لعبادته»، فهو الذي خلق الأرض لمصلحة الإنسان ليسكن فيها ويعمرها، وليست لعبادة القوة والطاغوت والثروة والسلطة والعبادة المزيفة، فهناك فرق بين الزائل والدائم.
ومع ذلك، هذه الأرض ليست ثابتة بسبب فعل الإنسان الذي يظن أنه قائم فيها أبدا، فقد تـُخسف الأرض بالمفاسد «فخسفنا به وبداره الأرض»، وقد تخسف بالماكرين والظالمين والعتاة والطغاة «أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض»، فلا أمان للمعتدين من الله «أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض»، ومهما توسع الكيان الاستيطاني عرضاً فإن الله قادر على أن ينقص الأرض من أطرافها «أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها»، وهو ما حدث للاستعمار الذي انتشر فوق أطراف الأرض ثم بدأت حركات التحرر الوطني بتقليص أطرافه حتى ردته إلى حدوده الطبيعية في الدول الأوروبية التي خرج منها. وهو ما يحدث للكيان الصهيوني الآن، مهما توسع في الأطراف وزرع المستوطنات في الضفة الغربية والجولان فإن المقاومة اللبنانية دحرته في طرفه الشمالي، وحرب أكتوبر 1973 قلصته في طرفه الجنوبي.
وكما خلق الله الأرض يرجعها إليه من جديد، وبعد أن يمتحن الإنسان عليها ويختبره فيها تظهر النتيجة في النهاية بعد أن تنتهي حياة الإنسان على الأرض، وهو يوم لا يأتى إلا بغتة، علامته انتهاء الاختبار، حينئذ تبدل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، فالأرض جميعاً في قبضته يوم القيامة، وتشرق بنور ربها، ويسمى ذلك اليوم القيامة، الزلزلة «إذا زلزلت الأرض زلزالها»، والراجفة «يوم ترجف الأرض والجبال»، وعشرات من الأسماء الأخرى رصدها المتكلمون والصوفية، إذ يخرج الناس من القبور، وتخرج الأرض أثقالها، وتنشق الأرض عن البشر سراعاً. ترتجّ الأرض وتدكّ، وتسير الجبال، فالأرض ليست دائمة، والاستيلاء عليها مؤقت، فكما خلقها الله تعود إليه، وكما سكنها قوم ظلماً وعدواناً فإنهم يخرجون منها.
* كاتب ومفكر مصري