اختلاس الزمن في ظاهرة الاختفاء القسري!
إن ارتكاب جريمة الاختفاء القسري يعني خرق حق الحياة والعيش بسلام ومن دون خوف وانتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي وممارسة التعذيب أو المعاملة القاسية والحاطة بالكرامة الإنسانية، والتجاوز على حق الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية وعلى حقه في محاكمة عادلة.
مرّت قبل أيام الذكرى السنوية الرابعة عشرة على اختفاء منصور الكيخيا وزير خارجية ليبيا الأسبق، وذلك حين كان يحضر مؤتمراً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة 1993، وقدّر لي أن أكون حاضراً ومشاركاً في المؤتمر، ورغم جميع الجهود التي بُذلت لإجلاء مصيره طوال الفترة الماضية، فإن جميعها أخفقت، ومرّت الجريمة النكراء من دون كشف حتى الآن.وأعاد اختفاء منصور الكيخيا قسرياً إلى الذاكرة مسألة الاختفاء القسري التي يعانيها نحو 63 بلداً ومنها بلداننا العربية، فإذا كانت المسؤولية القانونية تقع على عاتق الحكومتين المصرية والليبية لإجلاء مصيره، فإن مسؤولية الإدارة الأميركية في الإعلان عن اختطافه وإعدامه خارج القضاء والقانون وامتناعها عن تقديم ما لديها من «معلومات» إلى العدالة يؤشر بإصبع الاتهام والتوظيف السياسي إلى قضية الكيخيا.إن مناسبة الحديث عن الاختفاء القسري تتعلق بتبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية دولية جديدة تلك التي كان المجتمع الدولي، خصوصاً الناشطين الحقوقيين، يدعون إليها ويطالبون بها، للحد من ظاهرة الاختفاء القسري المستشرية، فضلاً عن كون هذه المناسبة دعوة مفتوحة إلى البلدان العربية للانضمام إلى الاتفاقية الدولية والتصديق عليها لوضعها موضع التطبيق.وكان الفريق العامل والمنبثق عن لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قد أقرّ إعلاناً في 4 مارس 1998 بشأن «حق ومسؤولية الأفراد والجماعات وأجهزة المجتمع في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالمياً»، وقد عرف هذا الإعلان باسم «إعلان حماية نشطاء حقوق الإنسان»، الأمر الذي يتطلب الاعتراف القانوني (De Jure) ووضع ضمانات كافية لحماية العاملين والنشطاء في منظمات حقوق الإنسان وطنياً ودولياً وتسهيل مهمتهم للقيام بواجباتهم مع احترام القواعد والقوانين التي تنظّم علاقتهم بالجهات المعنية.إن منظمات حقوق الإنسان هي منظمات مهنية وحقوقية غير حكومية كما أنها غير سياسية، رغم أنها تشتبك وتتقاطع مع السياسة فإنها لا تسعى للوصول إلى السلطة وليس لديها ميليشيات ولا تلجأ إلى العمل السري ولا تستخدم العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، بل تعمل لتحقيق أهدافها بصورة سلمية عبر حثّ جميع الأطراف على احترام حقوق الإنسان وعدم خرقها، وبقدر تمتعها باستقلالية وحيادية ونزاهة وابتعادها عن الانخراط في الصراعات الآيديولوجية والعقائدية والسياسية، واتخاذها مسافة واحدة من الجميع، تكون قد وفرت لنفسها وللعاملين فيها حماية أولية من الانحيازات المسبقة.ومن الناحية المبدئية فإنه ينبغي على هذه المنظمات الوقوف مع الضحايا إزاء الانتهاكات، بحيث لا تنظر ولا يهمها النظر إلى أفكارهم السياسية أو الآيديولوجية أو منحدراتهم الطبقية أو الاجتماعية أو عرقهم أو دينهم أو جنسهم أو لغتهم أو لونهم، فهي تقف مع حقوق الإنسان أينما وحيثما وكيفما انتهكت هذه الحقوق وتلك مهمتها الرئيسة.لقد ظلّ موضوع الاختفاء القسري Forced Disapperance حسب المصطلح القانوني الذي تستخدمه الأمم المتحدة أو «الاختطاف» حسب المصطلح السياسي والإعلامي المتداول يؤرق الضمير الإنساني والوجدان الشعبي ويشغل شريحة واسعة من المجتمع، والمقصود به: احتجاز شخص (أو أشخاص) محدد الهوية من جانب جهة غامضة أو مجهولة سواء كانت سلطة أو منظمة أو أفراداً، وتقوم هذه الجهة بإخفاء مكان الشخص وترفض الكشف عن مصيره أو الاعتراف باحتجازه وتسعى إلى إخفاء معالم جريمتها. إن ضعف الرأي العام وعدم اضطلاع مؤسسات المجتمع المدني بدورها يجعل الاختفاء القسري للضحايا أمراً واقعاً مع مرور الأيام وقد يتكرر من دون رادعٍ أو احتجاج لتحديد المسؤولية ووقف مثل هذه الانتهاكات اللاإنسانية التي لن تلحق الضرر بالضحية وذويه فحسب، بل بالمجتمع بأكمله حيث تشكل ظاهرة خطيرة تهدد السلام الاجتماعي والأمن والاستقرار وتثير الرعب والفزع في النفوس.هكذا اختفى المهدي بن بركة عام 1965 والسيد موسى الصدر في العام 1979 وناصر السعيد في بيروت، والدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة ودارا توفيق وعايدة ياسين ومحمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى في العراق عام 1980 وعزيز السيد جاسم في أوائل التسعينيات في بغداد واختفى منصور الكيخيا في القاهرة عام 1993، وهناك الآلاف من المختفين قسرياً على النطاق العربي مازال مصيرهم مجهولاً، ويذكر أن عشرات الآلاف من الذين اختفوا قسرياً إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003 لم يعرف عنهم شيئاً، إلاّ إذا افترضنا أن أعداداً منهم توجد بين الجثث المجهولة الهوية.لعل الخاطفين يراهنون على النسيان وعلى ذبول القضية بالتدريج بحيث يتلاشى الاحتجاج ويصبح مجرد ذكرى، فتراهم يعمدون إلى التعتيم ويثيرون غباراً من الشك لإبقائها في دائرة الظل بعد أن كانت الأضواء مسلّطة عليها.هكذا يتآكل الموضوع تدريجياً بالإهمال وضعف الذاكرة وازدحام الأحداث ودورة الزمن، بعيداً عن الإثارة وتحديد المسؤولية، خصوصاً استمرار البحث عن هوية الخاطفين والمرتكبين وترك المصائر المجهولة للمخطوفين باعتبارهم جزءًا من الماضي لا أمل فيه ولا عمل يُرتجى من حيث البحث عنهم أو الانشغال بهم.ومن المفارقة أن بعض السلطات وليست الجماعات الإرهابية وحدها تمارس الخطف ضد مواطنيها، في حين تحرّم القوانين مثل هذه الأعمال وتُعد بأشد العقوبات، وكم تساءلت مع نفسي، لماذا تعمد سلطة ما وهي مدججة بالسلاح والمال والإعلام والسجون وكل أسباب المنعة والقوة إلى اختطاف مواطن أعزل وتغييبه عن الأنظار؟ ولماذا تُستبدل وظيفة الدولة وهي حفظ وتنظيم حياة المواطنين والمجتمع، بمهمات عصابة خارجة على القانون، حين تقوم بخطف مواطن أو احتجاز سيدة أو أخذ رهائن بمن فيهم الأطفال أو إخفاء أثر طبيب أو إعلامي أو رياضي؟وإذا كان ضيق صدر السلطات وتبرّمها من الرأي الآخر هو السبب الذي يقف وراء مثل هذه الارتكابات التي تقوم بها الدولة، فسيكون الأمر في تناقض مع أبسط مقوماتها كدولة وقد تكفُّ أن تصبح دولة باستمرارها، إلاّ إذا نظرنا للأمر من زاوية عدم ثقتها بنفسها كدولة وخوفها من الضحية وانتهاكها حرمة المجتمع بما يؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية وتصفية الخصم أو حجبه بحجة امتلاك الحقيقة وتأثيم وتحريم وتجريم الآخر وهو الأمر الذي تمارسه الجماعات الإرهابية والمتطرفة بحجة الأفضليات وامتلاك الحقيقة.إن ارتكاب جريمة الاختفاء القسري يعني خرق حق الحياة والعيش بسلام ومن دون خوف وانتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي وممارسة التعذيب أو المعاملة القاسية والحاطة بالكرامة الإنسانية، والتجاوز على حق الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية وعلى حقه في محاكمة عادلة أو اللجوء إلى القضاء وحجب حقه في حياة أسرية طبيعية.ولكي لا يفلت الجناة من العقاب والملاحقة القانونية والقضائية ولا يتكرر المشهد التراجيدي بإخفاء البشر قسرياً والاستخفاف بقيم الحرية والحق الإنساني فلابدّ من السعي إلى توسيع دائرة الضوء وإنفاذ القوانين لتطويق دائرة الظلام وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وعوائلهم وإصلاح الأنظمة القانونية وتكييفها مع المعايير والاتفاقيات الدولية.* كاتب ومفكر عربي