جيوش وقصائد

نشر في 28-12-2007
آخر تحديث 28-12-2007 | 00:00
 محمد سليمان

الازدواجية التي تعشش فينا تجعلنا نحاول الجمع بين الشيء ونقيضه، فنحن على مدى ثلاثين سنة نقدم التنازلات والمبادرات لعقد معاهدة صلح مع الإسرائيليين وإنهاء حالة الحرب والصراع، لكننا في الوقت نفسه نتسلح بالقصائد الجيوش التي تحمل الثأر والحرب والبطولة.

الشاعر فقط في بلادنا هو المطارد والمتّهم بالكسل والانعزال والتقاعس عن النضال والكدّ ومواكبة الأحداث والتصدّي لها، وهو المسؤول فقط عن التردّي والهزائم لأنه لم يسقْ طياراته ودباباته ومدافعه إلى خطوط النار لكي يصدّ ويحارب ويغلب الأعداء بالكلمات والقصائد.

والشعر وحده هو المتهم بالتراجع عندما ينهار ويتراجع كل شيء في بلادنا، ولأننا أمة اعتادت أن تلوذ بالكلام عندما تحارب، وعندما تنتصر أو تنكسر وعندما تبكي صار على الشعراء سادة الكلام أن يكونوا دائماً مستعدين بالمدائح والقصائد المدافع، وبالبكائيات لكي يظلوا شعراء حقيقيين ومواطنين صالحين منتمين إلى بلادهم، ولكي يستحقوا إطعامهم أيضاً. ولذلك أصبح من المألوف كلّما تضاعف الوضع في العراق أو السودان أو لبنان وكلما سارت مظاهرة هنا أو هناك أن يقفز ذلك السؤال الخبيث «أين الشعر؟» وأن يصبح مدية يطاردنا بها إعلاميون وصحافيون لم يتابعوا الشعر ولم يعشقوه لكي يتحدّثوا عن تخاذل الشعراء وخيانتهم، ولكي يثبتوا أن الشعر قد تراجع أو مات أو خسر الدور والقراء والمكانة. وهم عندما يطرحون سؤالهم هذا لا يبحثون في الواقع إلا عن قصائد معينة لها مواصفاتها الثابتة والراسخة في أذهانهم، قصائد تشبه المنشورات السياسية وتتوارى غالباً بعد انتهاء الحدث أو المناسبة وقد لا يبقى منها في النهاية سوى القيمة التاريخية ناسين أن «حقل الفن هو عالم من الثورة الدائمة» كما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، والشاعر الثائر بطبعه ومتمرد على التقاليد الفنية والأطر القديمة والسائدة وأحيل هنا إلى كتاب «سوسيولوجيا الفن» ترجمة د.ليلى الموسوي الصادر عن سلسلة عالم المعرفة عدد يوليو الماضي وإلى قول د.محمد الجوهري في مقدمته «أن وسائل الاتصال الجماهيرية من صحافة وإذاعة وتلفزيون متهمة ليس في بلادنا وحدها ولكن في مجتمعات كثيرة بأنها عدو للثقافة الراقية ومتهمة أيضاً بأنها تشيع ثقافة، أهم سماتها السطحية والميل إلى التسلية وسيطرة القوالب النمطية في الفكر والذوق، وهي عامل داعم للاتجاه المحافظ في الفكر والحياة وأداة للغش أو الكذب ترسخ ما هو قائم ومن هنا تتهم أدوات الاتصال في الدول المتخلفة بتكريس التخلف والاستبداد».

لم يخل أدبنا وشعرنا القديم والحديث بوجه خاص من الانشغال بالهمّ السياسي فـ«كل شيء متصل جذرياً بالسياسة» كما يقول روسو، والمتابع للشعر في ربع القرن الأخير سيكتشف أن معظم قصائدنا مسكونة بذلك الهمّ، فالشاعر ابن زمنه ومكانه لا يستطيع الانفلات منهما، وهو قد يضع على وجهه الأقنعة أحياناً أو يوظف التاريخ والرموز والأساطير لكنه يظل دائماً محاطاً ومسكوناً بأحداث الواقع وتحولاته وتراثه وتظل القصيدة بشكل أو بآخر بنتاً لكل ما يهز هذا الواقع أو يدور فيه.

من هنا يفقد الكلام عن غياب قصيدة المقاومة أو القصيدة السياسية أو المواكبة للأحداث موضوعيته ويبرهن فقط على انحسار القراءة وتراجع الاهتمام بالشعر والتشبث بمواصفات القصيدة البيان أو المنشور السياسي والسعي إلى ترسيخ الجمود وإشاعة التخلف ومحاربة كل نوازع التجديد والتجريب والإضافة، وقد اعتدت في الأعوام الأخيرة أن أسأل المتحدثين عن تراجع الشعر والسائلين عن قصيدة المقاومة عن قراءاتهم الشعرية، وكانوا للأسف غير متابعين لمنجزات الحركة الشعرية في ربع القرن الأخير ويقف أغلبهم عند قصائد بعينها لبعض شعراء الخمسينيات والستينيات شاع تداولها أحياناً كبكائيات أو مراثٍ للعرب والعروبة «متى يعلنون وفاة العرب-نزار قباني» أو تلك التي نؤكد بها وجودنا «سجّل أنا عربي-محمود درويش» أو التي نجسّد بها الازدواجية التي تعشش فينا وتجعلنا نحاول الجمع بين الشيء ونقيضه، فنحن على مدى ثلاثين سنة نقدم التنازلات والمبادرات لعقد معاهدة صلح مع الإسرائيليين وإنهاء حالة الحرب والصراع، لكننا في الوقت نفسه نتسلح بالقصائد الجيوش التي تحمل الثأر والحرب والبطولة مرددين بانتشاء وزهو أشهر قصائد أمل دنقل «لا تصالح».

* كاتب وشاعر مصري

back to top