Ad

إن نجومية «فولك» الحقة لم تتكرس، بالفعل، إلا حين ضحك له الحظ ضحكته العريضة في أوائل السبعينيات، باختياره لتمثيل دور «كولومبو» في المسلسل الذي تواصل عرضه أكثر من ثلاثين عاماً، فكان «فولك» بعد هذا، وبأثر من متابعة مليارات البشر لحلقاته، واحداً من أكثر الممثلين شهرة في العالم!

من أطرف ما قرأت، في الآونة الأخيرة، كتاب من تأليف الممثل الأميركي «بيتر فولك» صاحب شخصية «كولومبو» التلفزيونية الشهيرة.

هذا الكتاب المؤلف من مئتين وثمانين صفحة، والصادر بطبعته البريطانية هذا العام عن دار «هاتشنسون»، ضم عدداً كبيراً من حكايات الممثل عن نفسه وعن تجاربه في الحياة والفن، وهي حكايات غير مرتبة زمنياً، وغير متوازنة في مساحاتها، ولا رابط يربط بينها سوى شخصية كاتبها التي تبدو في عالم القص متطابقة تقريبا مع شخصية «كولومبو» في عالم التمثيل... فكما يعمل ذلك المفتش ذو العين الكريمة، بملابسه غير المتناسقة وغير المرتبة، وبشروده الذهني وقلة حيلته المثيرة للإشفاق، على مفاجأتنا في نهاية كل قصة بعبقريته في الكشف عن مرتكبي الجرائم المعقدة، يعمل «بيتر فولك» على النسق نفسه في تأليف فصول كتابه، إذ هي تبدو مكتوبة خبط عشواء، تنجح، في النهاية، في استثارة اهتمامنا وإثراء معلوماتنا، وفي جعلنا نضحك بلا انقطاع، وذلك بحد ذاته هدف مهم بالنسبة له.

اختار "فولك” لكتابه عنوان just one more thing أو «مجرد نقطة إضافية»، وهو مستنسخ حرفياً من العبارة التي يرددها «كولومبو» باستمرار خلال تحقيقاته مع المشبوهين، وأضاف إلى ذلك عنواناً فرعياً هو «قصص من حياتي»، ولاريب أنه أراد بهذا أن يتهرب من تسمية كتابه بالسيرة الذاتية، ذلك لأنه، كما يعترف في المقدمة، لا يعرف ماذا يسميه، ويكتفي بالقول إن ما يعرفه حقا هو أنه سوف يضحكنا كثيراً، الأمر الذي سيضمن لنا وله أننا لن نغفو في أثناء قراءته!

لكنه يشير في تلك المقدمة إلى نقطة أخرى تبدو مفاجئة للقارئ، وهي أنه واحد ممن يمارسون فن الرسم، ولكي يلفتنا إلى جدية هذه النقطة، يردف قائلاً «لكن حبي للرسم هو جزء كبير من حياتي. إن فكرتي عن الجنّة هي أن أستيقظ صباحاً، وأتناول إفطاراً طيباً، ثم أستغرق في الرسم طول اليوم». وهو يرفق كلامه هذا بسبع لوحات مرسومة بريشته، ينبئ كل خط فيها عن أنه رسام محترف بالفعل، وهذا هو موضع المفاجأة!.

طرافة الكتاب تتبدى حتى قبل بدئه، ففي صفحة الإهداء، مثلاً، كتب يقول «إلى نور حياتي، زوجتي الحبيبة... وإلى جميع الكلاب»!.

وعن أهمية زوجته «شيرا» في حياته يقول إن القاسم المشترك بينه وبين «كولومبو» هو أن كليهما يتحدث عن زوجته بلا توقف.

وفي هذا الشأن يروي لنا عدداً من الطرائف عن زوجته، وفي مقدمتها هذه الحكاية التي تعرض بإيجاز الفوارق الحادة بين اهتمامات الرجل واهتمامات المرأة:

يقول «فولك»: لفتت نظري، في أحد أكشاك بيع الصحف، مجلة «فانيتي فير» وعلى غلافها صورة للممثلة «ديمي مور». لم تكن ديمي مرتدية أي شيء، فقد كانت عارية تماماً، و«حبلى» أيضا، ومع هذا فقد كانت تبدو رائعة. إنها صورة مدوّخة لامرأة عارية تستعرض مجد الحمل!

اشتريت المجلة على الفور، وحالما وصلت إلى البيت ناديت زوجتي قائلاً: شيرا... أريد أن أريك شيئاً. ثم أعطيتها المجلة وسألتها: ما رأيك في هذا؟!

نظرت «شيرا» إلى الغلاف، ففتحت عينيها على اتساعهما، وصرخت: واو... انظر إلى ذلك الخاتم!.

أعدت النظر في الصورة فتأكد لي أن «ديمي» كانت تلبس، بالفعل، خاتماً في إصبعها الأوسط. وذلك شيء لم ألاحظه على الإطلاق، لكن زوجتي لم تلاحظ شيئاً غيره على الإطلاق!

أما عن عينه «العوراء» فيقول إنها انتزعت بعملية جراحية، منذ كان في الثالثة من عمره، وذلك لإصابتها بالسرطان، وقد صار منذ ذلك الوقت يملأ فراغها بعين اصطناعية كانت في العادة مصنوعة من الزجاج، ثم أصبحت من المطاط بعد تطور الصناعة.

وحتى في هذا الموضع لا يتردد عن السخرية، إذ يقول «ذهبت، ذات مرة، لفحص نظري، وبدا لي أن الشخص المكلف بإجراء الاختبار قد أمضى أعواماً طويلة في هذه المهنة، حتى غدا إجراؤه للاختبار عملاً آليا خالياً من الاهتمام، فلقد حياني بسرعة، ثم جذب كرسياً ودعاني إلى الجلوس قائلاً: حسناً... سنبدأ بعينك اليسرى، فغطيت حينئذ عيني اليمنى ورحت أقرأ الحروف على اللوحة، فسجل الأرقام ثم قال: الآن... سنفحص عينك اليمنى. قلت له: عيني اليمنى زجاجية. لكنه قال لي: لا بأس... حاول بقدر ما تستطيع»!

يقول «فولك» إنه حتى بلوغه الثامنة والعشرين، لم يكن يعرف ماذا يريد أن يصنع في حياته، فقد أنهى دراسته في الكلية، ودخل كلية أخرى ليدرس شيئاً آخر، ثم دخل أخرى ليدرس شيئاً غيره. واستمر هكذا طالباً مؤبداً، على الرغم من أن جميع أقرانه كانوا قد قرروا منذ وقت طويل ماذا يريدون أن يعملوا.

ولكي يكسر هذا الطوق، التحق بإحدى السفن ليعمل طباخاً على متنها، وبالمال الذي كسبه من عمله اشترى عدداً كبيراً من الكتب، واستأجر غرفة حبس نفسه فيها أشهراً عدة، منصرفاً إلى القراءة فقط، معتبراً إياها مهنته في الحياة. لكنه سرعان ما ضجر من هذا التصنع، فعاد إلى دائرته الأزلية، ثم حاول الخروج منها أكثر من مرة بممارسة أعمال كثيرة لا يحبها دائما، ولا يفهمها أحياناً كعمله، على سبيل المثال، مدققاً في دائرة الميزانية!

وكما يسير «كولومبو» على غير هدى، وجد «فولك» نفسه يدخل مدرسة للتمثيل، وفي أثناء دراسته فيها استطاع أن يحظى بأدوار صغيرة في مسارح الشوارع الخلفية، ولم تكن تلك الأدوار لتدر عليه أكثر من ثلاثين دولاراً في الأسبوع لكنه أدرك، من خلالها، أن التمثيل هو العمل الذي يريده، ولذلك فقد أخبر أباه بأنه قرر أن يصبح ممثلاً وكان ذلك في عام 1955، وصعق أبوه لهذا القرار، وسأله «أتعني أنك ستلطخ وجهك بالأصباغ وتجعل من نفسك حماراً طول حياتك؟!” فأجاب «هذا صحيح». عندئذ صافحه أبوه وقال له بسخرية حارة «حظّاً سعيداً».

وبعد انتظار طويل جاءت فرصته الأولى عندما اختارته شركة في هوليوود لا يتذكر اسمها، للتمثيل في فيلم تاريخي لا يتذكر عنه شيئاً. وقد تقرر أن يتقاضى خمسمئة دولار أسبوعياً، وحين التحق بموقع التصوير لم تكن المشاهد التي تتضمن دوره قد أعدت بعد، فعكف، خلال الانتظار، على تزجية الوقت بلعب الغولف، بينما كانت الشركة على مدى أسابيع الانتظار، تدفع له المبلغ المقرر في العقد.

وقد اتصل بأبيه ليبلغه بأنه حصل على دور في فيلم، فسأله عما سيدفعونه له، فقال إنهم يدفعون له خمسمئة دولار أسبوعياً، فلما سأله عما إذا كان قد بدأ العمل، أجابه بأنه ينتظر إعداد المشاهد. عندئذ انفجر أبوه غاضباً: وماذا تفعل هناك إذاً؟! أخبره بأنه يلعب الغولف. فزادت حدة غضب أبيه، وصرخ: ألا يحتاج مكوثك هناك إلى تكاليف طعام وإقامة؟!

فلما أبلغه بأن الشركة قد تكفلت بكل هذا، إضافة إلى أنها مستمرة في دفع مستحقاته، لم يصدق ما سمعه إلا بعد أن أرسل إليه إيصالات موقعة للشيكات المصروفة. وعند ذلك أخذ أبوه تلك الايصالات، وراح يدور في أنحاء المدينة كلها مخاطبا الناس «أليست بلادنا طيبة؟! الولد يلعب الغولف كل يوم، وفي نهاية الأسبوع يعطونه خمسمئة دولار!” ويتبع ذلك بقهقهة يهتز لها جسده كله، ليضيف «أكون ابن ساقطة إذا لم يكن شغل السينما هذا هو أكثر الأشغال سهولة وإدراراً للأرباح»!

لكن هذا الشغل لم يكن حقاً بمثل هذه السهولة التي تخيلها والده، فلقد أمضى «بيتر فولك» أعواماً طويلة لم يحظ خلالها إلا بأدوار هامشية لا يلحظها المتفرج، أو بأدوار ثانوية في عدد من الأفلام النمطية، لاسيما أفلام العصابات، حتى استقر في نفسه أن صانعي الأفلام لا يفكرون في استدعائه إلا إذا احتاجوا إلى من يؤدي دور «مجرم»!.

وعلى الرغم من أنه استطاع، بعد صبر وجهد، أن يظهر كفاءته، وأن يحظى بالنجومية عند أدائه دور البطولة في المسرحية الشهيرة «سجين الشارع الثاني» مع الممثلة «لي غرانت»، فإن نجوميته الحقة لم تتكرس، بالفعل، إلا حين ضحك له الحظ ضحكته العريضة في أوائل السبعينيات، باختياره لتمثيل دور «كولومبو» في المسلسل الذي تواصل عرضه أكثر من ثلاثين عاما، فكان "فولك” بعد هذا، وبأثر من متابعة مليارات البشر لحلقاته، واحداً من أكثر الممثلين شهرة في العالم!

* تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية