Ad

الشركات السياحية المعنية بنقل الحجاج، أخذت تزين الحج للراغبين في التميز والتقليد، من منطلق مادي قد يثلم القيمة الروحية ويشينها، والأنكى من ذلك كله هو ابتداع حجة «Take away» التي يتم فيها الحج في غضون ثلاثة أيام فقط لا غير! ولكل بدعة ثمن غال.

* حسبي الله على السياسة التي باتت تدس أنفها في كل شأن من شؤون حياتنا اليومية! عيدكم مبارك مكعب هذه المرة، لأن اليوم عيد، وغداً عيد، وبعد غد عيد وفق اختلاف «المطالع» والتوجهات السياسية! ذلك أن هيئة الرؤية التي تحفل بتحديد أول شهر ذي الحجة لم تعد تعوِّل على الرؤية العيانية لهلال الشهر، ولا تجيز الاعتماد على الأجهزة التقنية القادرة على رؤية نملة تسرح وتمرح في الربع الخالي من على بعد آلاف الكيلومترات! لأن هلال الشهر الفضيل بات يظهر ويبان «بفرمان» سلطوي، وقرار سياسي سيادي لا يأتيه الباطل من أي صوب ولله الحمد!

إن تحديد أول رمضان، ويوم عيد الفطر، وغُرة شهر ذي الحجة: بات يتم من فوق!.. لأن «الناس» الذين في الأعالي أقدر على رؤية الهلال من الناس الذين تحت، ولو كانوا من أساطين علم الفلك المدججين بالعلم والمعرفة وعدة وعتاد وأدوات الرؤية عن بعد!

والغريب أن رؤساء وملوك البلاد الإسلامية قاطبة: أتفقوا في منظمة المؤتمر الإسلامي، عقد في اسطنبول منذ سنوات عدة على توحيد المناسبات الدينية الشرعية وقد فرح المسلمون بهذا الفتح العظيم، والإنجاز الفخيم الذي سيوحد بينهم: صوماً وعيداً وحجاً، لكنهم اكتشفوا أن الاتفاق حبر على ورق، لا يختلف عن التوصيات التي يدبجها المؤتمرون العرب والمسلمون، في كل زمان وحين، لكنها لا تنفذ ولن تنفذ! لأنها توصية تتوخى تسجيل موقف، ذراً للرماد في العيون! وبسبب هذا الرماد باتت رؤية الهلال عصية على عامة الناس.

*هل أتاكم خبر الحج السياحي الفخيم المرصع بخدمة الخمسة نجوم؟! أعني ذلك الحج الذي يؤديه الحجاج الـ «V.I.P» الراغبين في التمايز عن بقية حجاج بيت الله الحرام! ناسين ومتناسين أن حجة الخمسة نجوم تفقدهم مزية المساواة بين عباد وضيوف الرحمن الذين يوحد بينهم لباس الإحرام بغض النظر عن مقامهم الدنيوي.. فتجد الأمير والغفير الخفير والجميع يتشحون بإزارين قطنين توأمين في التواضع لله سبحانه، حيث الكل في واحد، لا فرق بين أحد سوى بتقوى الله جل وشأنه،

قبل قدومي إلى البلاد زرت صديقي العم «موافي» لأودعه وزوجه وهما في طريقهما إلى الأراضي المقدسة ولاحظت أن صديقي في حالة «حيص بيص»، وراعني أنه يضرب «أخماساً في أسداس» والآلة الحاسبة المحمولة تلهث خلف أنامله التي يبدو أنها تحصي مصاريف الحج السياحي الذي اختاره صاحبنا، بدافع حمى التقليد، وصرعة «التأسي» بالأصدقاء الميسورين، البطرانين المهمومين بتفاصيل و«بروجرام» حجة الخمسة نجوم، أكثر من احتفائهم واهتمامهم بمناسك الحج! وكأن «بوفيهات» الوجبات الثلاث هي أحد مناسك الحج الذي لا يستقيم بدونها! وهي قد تكون كذلك من وجهة نظر الشركات السياحية المعنية بنقل الحجاج، حيث تزين لهم الحج من منطلق مادي قد يثلم القيمة الروحية ويشينها، والأنكى من ذلك كله هو ابتداع حجة «Take away» التي يتم فيها الحج في غضون ثلاثة أيام فقط لا غير! ولكل بدعة ثمن غال، تتفنن في الدعاية لها الشركات السياحية، وتروج لها بصيغ مغرية للحاج الميمم صوب مكة المكرمة، وهو في إهاب وسمت السائح الميسور الذي يحق له الحظوة بخدمة الـ «V.I.P» في أي مكان يحل به!

* شاعر الشعب الفذ الأستاذ «فهد راشد بورسلي» علم معروف، والمعروف، كما يقال، لا يُعرّف، حسبه أن العم «بو عبدالله» الأستاذ «أحمد البشر الرومي» وصفه بـ الشاعر العبقري، وقال في مقدمة ديوانه: لو أُتيحت له دراسة اللغة العربية لكان له شأن آخر، فشاعريته الفذة أهلته في الشعر الشعبي مكانة لم يصل إلى مستواها ـ على ما نعلم ـ إلا القليل النادر من الشعراء الشعبيين، ونقول للعم «أبي عبدالله» صح لسانك وزان بيانك، لكن أمير الشعراء أحمد شوقي قال رأياً مخالفاً لرأي أستاذنا «البشر» في شاعر العامية المدهش الأستاذ «بيرم التونسي» مقولته الشهيرة: (أني لا أخشى على اللغة العربية، سوى من عامية «بيرم» العبقرية). وكلاهما «التونسي وبورسلي» كانا صوت الشعب ولسانه، وضمير الأمة بامتياز، وبمناسبة موسم الحج يجدر بنا أن نشير إلى أن العم «بيرم» أبدع أجمل قصائده الصوفية، و «حج» إلى بيت الله الحرام بروحه وإبداعه: دعاني لبيته.. لحد باب بيته.. ولما تجلا لي.. بالدمع لاقيته... وهكذا فعل شاعرنا «بورسلي» الذي حج فعلا سنة 1945، وقد اختار بناء على نصيحة أحد أصدقائه الحج بواسطة الجمال، رغم أن السيارات كانت متوفرة آنذاك.

الشاهد إنه ـ رحمه الله وغفر له ـ أمتطي البعير مكابداً وعثاء السفر، ومشقة الطريق، والتعب المتمخص عن ركوب الجمل شهراً كاملاً على أقل تقدير، وقد وصف ظروف رحلته بقصيدة ريانة بالسخرية المرة اللاذعة، والمضمرة بالحكمة والموعظة والمفارقة يقول:

أنصح التاجر نصيحة والفقير

لا يحدونه على ركب البعير

لا يحدونه على رجب الرجاب

بالدراهم يشتري ضيم وعذاب

ويستمر الشاعر في وصف تفاصيل معاناته، حيث يطلب هودجاً لأن حاله ركيك، وقوامه نحيل، فالركوب أتعب مقعدته فقال:

قلت أبي كوايه «هودج» ترى حالي ركيك

قالوا استح يا فهد عيب عليك

شوف خالك، شوف جدك، شوف أبيك

وأنت مثلك في سوالفهم خبير.

لكن كل هذه المعاناة التي كابدها طوال رحلته انقشعت حين تكحلت عيناه بمشهد الكعبة المشرفة،

فأجهش بالبكاء وخر راكعاً:

بس هوّن خيمهم باب السلام

والسؤال الذي يطرح نفسه أخيراً هو: ترى ماذا كان سيكتب شاعرنا عن الحج السياحي إياه لو أنه عاصره؟ لحسن حظ شركات الحج السياحي أنه غائب! لكنه الغائب الحاضر دوماً.