بسب الأوضاع المأساوية في الصومال وعدم الاستقرار وتكرار حالات الجفاف يقوم مئات الآلاف خلال الـ15سنة الماضية بالعبور بحراً من سواحل أرض البونت، وتحديداً قرب بوصاصو إلى اليمن «السعيد»، فهل لنا أن نتخيل حالة البؤس التي تجعل شخصاً ما يفر إلى اليمن، وهو بلد فقير بذاته؟!عندما كنا صغاراً نردد بعض الأهازيج الشعبية، مثل «ديكي ضاع من دوره...» وغيرها، كانت إحدى تلك الأهازيج ذات الشعبية الكبيرة تقول «الصومالي باع كوته واشترى له كوتا ثانيا» كنا نظن حينها ربما أن «الكوت» ليس إلا الرداء الذي يلبسه الإنسان اتقاء للبرد، لم نكن نعرف حينها لماذا باع كوته وبكم باعه؟ كما لا نعرف حتى الآن كيف ضاع الديك وهل وجدوه أم لا؟ وعلى أي حال اكتشفت لاحقاً أننا لم نكن ندرك أن «الكوت» المقصود هو المركب الصغير، فكان ذلك من ضمن الأخطاء الشائعة التي ظللنا نرددها ربما حتى اليوم.
والشاهد أن علاقة الكويت بالصومال قديمة قدم علاقة الكويت بالبحر، وهي علاقة وجود، فقد كان العديد من السفن الكويتية في رحلة السفر والتجارة يتجه من الكويت إلى البحرين فمسقط فعدن محاذية الساحل جنوبا منحرفة يمينا حتى ميناء بربرة في شمال الصومال، ثم إلى بوصاصو التي تعرف باسم بندر قاسم أيضاً، ثم مقديشو فكيسمايو ثم ممباسة رأس الحافون، حيث يشحنون الملح، وقد زرت رأس الحافون تلك قبل سنتين تقريباً لتفقد أوضاع القرية الإنسانية، إذ سواها إعصار تسونامي بالأرض تماماً.
أما ميناء بربرة الشهير فيبدو أن تسمية الماعز «البربرية» المعروفة في الكويت بلونها الأبيض جاءت منه، وكاد ميناء بربرة يكون شرارة انطلاق لحرب عالمية ثالثة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، إذ فرضت التغيرات السياسية منح تسهيلات عسكرية لهذا الطرف أو ذاك من قبل الرئيس الصومالي آنذاك سياد بري، فقد كان تنافساً كاد يحول الحرب الباردة إلى مشتعلة لا تُبقي ولا تَذر.
وتعد السواحل الصومالية من أطول السواحل في أفريقيا، إذ يبلغ طول سواحلها نحو 3025 كلم. للمقارنة فقط، فإن سواحل الكويت طولها نحو 500 كلم والسعودية نحو 2640 كلم.
فإذا علمنا أنه بمقابل هذه الوفرة المائية البحرية، فإن اثيوبيا جارة الصومال التي تشترك معه بحدود تزيد على 1600 كلم، لا يوجد لها أي شبر واحد مطل على البحر. وهنا تتضح لنا الاشكالية الاستراتيجية إقليمياً، لاسيما بعد أن استقلت اريتريا وأخذت معها 2234 كلم على البحر،
ولعل العلاقة المتوترة بل العدائية بين كل من اثيوبيا واريتريا، ولكون الصوماليين عموماً يعتبرون اثيوبيا قد اقتطعت جزءاً من الصومال هو إقليم أوغادين، وإغلاق البحر عن اثيوبيا ما هي إلا عوامل تضيف المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة عموماً، وداخل الصومال على وجه الخصوص.
وبسبب الأوضاع المأساوية في الصومال وعدم الاستقرار وتكرار حالات الجفاف، يقوم مئات الآلاف خلال الـ15سنة الماضية بالعبور بحراً من سواحل أرض البونت، وتحديداً قرب بوصاصو الى اليمن «السعيد»، فهل لنا أن نتخيل حالة البؤس التي تجعل شخصاً ما يفر الى اليمن وهو بلد فقير بذاته؟! وقد تكونت حول ذلك تجارة بالبشر تقوم على نقلهم بالمراكب المهترئة عبر خليج عدن أو أوضاع لا إنسانية يدفع فيها الراكب 50 دولاراً أو فلنقل «المركوب»، إذ يوضع البشر بعضهم فوق بعض، ويتم إجبارهم في الكثير من الأحيان على القفز قبل الوصول الى الشاطئ اليمني، ويغرق في تلك المحاولة المئات كل موسم.
ويبدو أن المجتمع الدولي لا يكترث لتلك المأساة، إذ قمتُ بتنظيم يوم للصومال في أثناء انعقاد مجلس حقوق الإنسان في جنيف الصيف الماضي، عرضنا خلاله فيلماً وثائقياً مرعباً كان قد أخرجه سينمائي فرنسي خاطر بنفسه وركب في أحد المراكب اللعينة ليصور تلك الحالة البائسة، وهذه ما هي إلا نموذج واحد على الحالة المأساوية التي يمر بها الصومال والتي يبدو أنها في استمرار ولن تتوقف.
ربما كنا أكثر تفاؤلاً عندما كنا نغني صغاراً بأن الصومالي باع «كوته» واشترى له «كوتا» آخر، فواقع الصومال الحالي هو واقع مزر، «الكوت» فيه مغتصبٌ، مهملٌ، مهمشٌ، فلا بيع ولا شراء ولا هم يحزنون.