* لست من محبذي الكتابة عن الإنسان العام، الذي يهم عامة الناس وخاصتهم في مناسبات معينة، وفق طقوس فولكلورية اجتماعية كما تتبدى بالاحتفاء بتأبين الغائب؛ في ذكرى مرور أسبوع، وأربعين يوماً، وسنة على وفاته، لاسيما إذا كان الراحل شديد الحضور، ثري العطاء مثل الأخ الصديق الدكتور أحمد الربعي رحمه الله. وحين أستدعي إلى الذاكرة «القرنبع» العتيقة العجوز، تجليات «بوقتيبة» المتعددة؛ المناضل الحالم بالتغيير للمنكر باليد وقوة السلاح، والمعلم الأستاذ الفقيه في الجامعة الذي يُدِّرس الفلسفة الإسلامية بصيغة مستنيرة، وروح نقدية مدججة بعلامات الاستفهام والتعجب، كما هو دأب وشأن الباحث عن الحقيقة.

Ad

وكثيراً ما سمعت منه: كلمات غاضبة حزينة تندب مستوى الطلاب «من الجنسين» المتواضع في اللغة العربية الفصحى! كان غيوراً جداً على اللغة العربية، ولاغرو في ذلك لأنه شاعر وأديب، ومغرم صبابة بعمنا «أبو الطيب المتنبي» الناطق الرسمي باسم أخينا «الربعي»، رحمه الله وغفر له، وكأن ثمة توحداً بأبي الطيب، يصل في أحيان كثيرة إلى حد التماهي فيه! وحين أسررت له هذه المقولة ذات مرة؛ انفجر ضاحكاً وهو يقول: «أهذا مدح، أم ذم، أم ماذا؟! اهتبلت مناخ السخرية الضاحك فقلت له: يبدو أنها ماذا!».

ما علينا، لأن الذي كان يحيرني بشأن علاقة صاحبنا بالشعر وتصعلكه في وادي عبقر، يكمن في عزوفه العنيد عن نشر إبداعه الشعري، الذي لا يعلم به سوى أصدقائه الحميمين، وقد حاولت كثيراً، حينما تزاملنا في العمل بصحيفتي «الوطن» و«القبس» على التوالي، حثه على أن ينشر شعره في ديوان، لكنه لا تعوزه الحيلة لتغيير دفة الحديث صوب موضوع ينسيك دعوتك له بنشر ديوانه!

وقد احترت في تفسير هذا العزوف عن النشر، فهو كان يظن أن ما يبدعه من قصيد مجرد محاولات للإمساك باللحظات الانفعالية الهاربة، ومحاولة تخليقها على الورق، من دون أن يقصد أو يتعمد تدبيج قصيدة عصماء! وأياً كان الأمر بشأن رأيه في شعره، وأنا أعزوه إلى تواضعه، فضلاً عن رغبته المعهودة في التفرد والتميز والتجويد. وكأن الناقد الحازم الحاسم الكامن فيه أصدر حكمه الصارم بسجن شعره في صدره، ينفثه ويتنفس به حين يروق له ذلك. وقد أحسنت صنعاً صحيفة «القبس» حين بادرت مشكورة بإصدار مقالاته الرائعة «أربعائيات» التي يمكن قراءتها الحين وغداً وإلى ما شاء الله؛ من دون أن تفقد طزاجتها، وكل ما تنطوي عليه من حكمة، وبلاغة صوفية شاعرية، وقدرة فذة على التحليل والتواصل مع المتلقي بسهولة مدهشة. ولاغرو في ذلك لأنه يملك الزاد والعتاد والعدة! وأحسب أنه آن الأوان لكي ترى أشعاره النور، لاعتقادي الجازم بأنها جزء حميم من إرثه وتراثه الإنساني العام الحري بنشره وإشاعته، ومن ثم دراسته وتحليله من قبل الباحثين والنقاد والكتاب الذين «ينتقدون» كل شيء ولله الحمد!

* لا أعتقد أن صحيفة «القبس» ستتردد في إصدار ديوان شعره، وأحسبها ليست بحاجة إلى توصية ولا تزكية لاسمح الله، غاية ما هنالك هو التذكير المشفوع بالتمني والعشم في «القبس» وأهلها. وما دمنا في سيرة التمني الراغب في تخليد فقيد الوطن الغالي، فقد يكون مناسباً أن يتداعى أصدقاء ومريدو الراحل لإصدار كتاب تذكاري جامع مانع، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا وثقها في متن هذا المصنف.. تتصدره سيرته الذاتية الثرية بالأفعال والممارسات النضالية والسياسية والاجتماعية وتجليات شخصيته النيرة كلها التي مرقت في حياتنا الوطنية كشهاب خاطف!

إن إطلاق اسمه على مدرسة أو شارع، هو أسهل أشكال التكريم، وهذا المنحى بات مشرعاً لكل من هب ودب في أرشيف المعلومات المدنية! وحريٌّ بنا -نحن مريديه- ترجمة مشاعرنا ودموعنا إلى أفعال تمكث في الأرض، تجسد هويته وشخصيته المنيرة المستنيرة «الضاوية» للقلوب والعقول والذاكرة. إن كلماتنا التي ألفنا تدبيجها إثر غياب كل راحل عزيز، لن تفيده بشيء بطبيعة الحال، وقد يجد فيها أهله بعض العزاء، لكن هذه الكلمات تغدو حبراً على ورق، إذا لم يعقبها «تأبين» عملي يمشي على الأرض، وينفع الناس، سبيلاً مشاعاً، يروي العطاش إلى النور والحكمة والشعر والفن الجميل والمعرفة وغواية الأسئلة، وفتنة التمرد على الظلم والطغيان والفساد والقبح بصوره وتبدياته كلها،

الزبدة: إن تراث «الربعي» المكتوب والمتلفز والمسموع، فضلاً عن شهادة مريديه ومخالفيه وتلامذته وخصومه في الفكر والسياسة، أقول إن تراثه كله حريٌّ بالاحتفاء اللائق به... لكون ذلك من حقه علينا وواجبنا تجاهه.