عندما وفد معمر القذافي إلى فرنسا زائراً (رسمياً؟... هل يرتضي المعنيّ هذه الصفة وهو الذي ينكر اضطلاعه بالحكم؟)، ضرَب خيمة زعم أنها «بدوية»، مع أنها أقرب إلى خيام الهيبيين طيب الله ثراهم، في حديقة أحد «قصور الجمهورية»، كما يقول الفرنسيون المقيمون على ضغينة لا تحول ولا تزول حيال نظامهم الملكي البائد، واتخذها قائد العصر الجماهيري له مقاماً طيلة أيام خمسة، قضاها في «مدينة النور» (أو «المدينة النور»، وفق ترجمة قد تكون أدق)، وبهر خلالها وسائل الإعلام المولعة بالإثارة، والتي يبدو أنه لم يبق، في هذا الزمن الفائق الحداثة، أو الفادح الحداثة على الأصح، من وسائل إعلام سواها!
فقد كان ضرْب أوتاد الخيمة العتيدة مفتتح سلسلة من أقوال وأفعال «التحدي» تعمدها مجترح عصر الجماهير، ولم تكد تخلو منها لحظة من لحظات إقامته الباريسية، راداً على كل إساءة بادره بها فرنسيون لم يحسنوا وفادته واستفظعوا مجيئه، بأحسن منها. فعندما ساءلوه حول احترام حقوق الإنسان، عيّرهم بانتهاكهم حقوق المهاجرين، وانتدب نفسه محامياً للأفارقة منهم فخصّهم بحدبه، وعندما أشاروا إلى حال المرأة في ليبيا، رد لهم الصاع صاعين بأن رثى لحال المرأة الغربية وطمأنها إلى أن خلاصها وشيك في المتناول، سيتحقق ما إن يستتبّ النظام الجماهيري، حتماً ولا محالة طبعاً، في أرجاء الكون. أما ديموقراطيتهم، فقد سفّهها وسامها سخرية لاذعة، مسهباً في حديث لم ينفذوا إلى مراميه العميقة عن الديموقراطية «ديموكراسي» والكراسي، متباهياً بأن الشعب كله، في بلاده، «جالس على الكراسي»، وأن ذلك لم يقيّض لسواه في بلاد الأرض الموصوفة بالتقدم.ليس المراد من إيراد هذه الوقائع الغمزُ، سخريةً أو تشهيراً، من قناة القائد الليبي، فمثل ذلك مهمة ميسورة لا أمجاد من ورائها تُرجى ولا بطولة. ما يهمنا هنا هو مساءلة سلوك «التحدي»، ذاك الذي لا ينفرد به معمر القذافي وإن اكتسب لديه نكهة لا تُجارى، بل هو عندنا ميسم ثابت فارق في تعاطينا مع العالم الخارجي، لاسيما ذلك الغرب الذي نمْقُتُه بقدر ما نغبطه، سواء بسواء، عدونا المفضّل الذي ربما أمعنّا، من حيث ندري أو لا ندري، في استدخال تفوّقه وفي التسليم بذلك التفوق، حتى حصرنا سبل التعامل معه في مظاهر «الاحتجاج»، أي في أفعال نأتيها وأقوال نتفوّه بها يبقى أفقها «احتجاجياً» في المقام الأول، حتى إن زعمنا لها خصالاً تغييرية ومفاعيل تثويرية تحريرية.إذ ما لا شك فيه، حتى نعود إلى مثالنا القذافي السابق، أن موازين القوة بين ليبيا وفرنسا، مهما كان أمرها ومستواها، ظلّت على حالها بعد «تحديات» العقيد الأخيرة كما كانت قبلها، أي أن «التحديات» تلك كانت، في نهاية مطافها، شأنا «احتجاجياً» خالصاً، عملاً بسنّة عربية راسخة لم يخترعها العقيد والحق يُقال. ومن سمات أفعال «الاحتجاج» أنها تستنفد نفسها في مجرد حصولها، لا تشخص نحو غاية سواها ولا تنشد مفعولا يتعداها أو يتعدى وقعها المرجوّ على النفوس، لا على عناصر واقع قائم أو مكوّنات نِصاب مستتب، وهي (أي الأفعال من تلك الطينة) استطراداً ليست معنية بنتائجها ولا تحسب حسابها، بل قد تبقى أثيرة على القلوب، إن أدت في نظر المعنيين بها ومناصريها وظيفتها «الاحتجاجية» على «أكمل» وجه، لا تُجادل ولا تُساءَل، حتى إن كانت نتائجها عكسية أو انضوت في عداد الكارثة.يكاد التوصيف أعلاه أن يختصر، على سبيل المثال، سيرة دكتاتور العراق السابق صدام حسين، فهذا أيضاً استوت لديه أفعال «التحدي» بديلاً عن كل استراتيجية يُفترض أن يتوخاها من كان في مثل موقعه، مسؤولاً عن دولة وعن مصير شعب وعن مآل كيان. من غزوه الكويت إلى أم معاركه إلى مواجهته الفاصلة الأخيرة مع الأميركان، لم يأت الرجل من أفعال غير تلك الصماء البكماء عن نتائجها، من النوع الذي يستمدّ شرعيته ومسوّغه من ذاته حصولاً وإنجازاً. ولكن ما قد يكون أبلغ دلالة على تمكن عقلية أو، كما يُقال بلغة هذا الأيام، «ثقافة» «الاحتجاج»، بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه، الحظوة التي نالها الدكتاتور السابق، والتي يجب الإقرار بأنها كانت واسعة وأحياناً كاسحة، بين «جماهير» المنطقة العربية، تلك التي لم تحاسب ولم تؤاخذ قط دكتاتور العراق السابق، على أخطائه وخطاياه والخطوب الناجمة عنها على بلاده وعلى المنطقة، بل حتى على هزائمه، ولكنها أكبرت، ربما لا تزال، أفعال «التحدي» التي اقترفها، مقيمة فصلاً صارماً بين الفعل ونتائجه، وهكذا، وعلى سبيل المثال، لم يتساءل أحد عن الجدوى التي تحققت من ضرب إسرائيل بالصواريخ، إبان حرب الخليج الثانية، وما إذا كانت قد أثرت في ميزان القوة أم لم تفعل وزادته انخراما، وتم الاحتفاء بتلك الضربة في ذاتها وفقط لأنها حصلت، فكان أثرها النفسي، الذاتي في نهاية المطاف، مغنياً عن كل ما عداه من آثار.إذ قد يكون الوازع الكامن عميقاً في ذواتنا لعقلية «الاحتجاج» هذه، مخاطبة النفس من خلال استهداف الغير، ورسم صورة لتلك النفس مشرقة بطولية، لا يني الواقع يفندها ويدحضها ويبرز مواطن الضّعة فيها، ولكن الصورة تلك، وهذه ميزتنا، لا تُبنى بجهد وئيد متّصل، بل «لقطة آنية»، على هيئة فعل خارق واستثنائي، لا يسبقه شيء ولا يعقبه شيء، إن لم يكن ما هو أنكى منه وأفدح. ضربة الحادي عشر من سبتمبر 2001، وحماس الجموع لها، كانت نموذجية في هذا الصدد، وكذلك حرب الصائفة ما قبل الماضية في لبنان... هنا، كما هناك، ليس للنصر وللهزيمة من معايير غير تلك النابعة من ذاتنا، لا تلك الموضوعية تُقاس بالنتائج تُحقق أو تمتنع.لعل ذلك ما يفسر ولعنا بالمعلوم المهزومين، يكادون يشغلون دون سواهم، «مجمع الآلهة» لدينا، إذ ما المهزوم إن لم يكن ذلك الذي أوغل في فعل «التحدي» إلى درجة الفناء فيه، جسدياً ومعنوياً؟ ولعل ذلك أيضا ما يفسر تعلقنا بالشهادة والاستشهاد، أليست الشهادة «احتجاجاً» أقصى ومبرماً، يقطع الصلة نهائياً، بين الفعل ونتيجته، بإلغائهما معاً من أفق الشهيد؟* كاتب تونسي
مقالات
العرب وثقافة الاحتجاج
01-01-2008