في مقال الاثنين الماضي، وفي هذه الزاوية، وتحت العنوان ذاته، استعرض مقالي بعض ما بذلته السلطتان التشريعية والتنفيذية من جهود لتفعيل سياسة التكويت، باعتبار أن حق المواطن في العمل هو حق دستوري تقوم الدولة على توفيره للمواطنين إعمالا للمادة (41) من الدستور، وأن تعيين الأجانب هو استثناء من هذا الأصل (المادة 26) عندما تدعو الحاجة إلى الاستعانة بهم، ومن المقرر أن الاستثناء لا يتوسع فيه.

Ad

وانتهى مقالي السابق إلى طرح سؤال حول ما إذا كانت سياسة التكويت، قد صاحبها خطاب ديني وسياسي وثقافي وإداري وإعلامي يغرس القيم الكثيرة للعمل التي حفل بها الدستور؟ أجبت عنه بالنفي باعتبار أن العمل ليس حقا دستوريا تعمل الدولة على توفيره للمواطنين فحسب، بل هو واجب وطني يستهدف الخير العام للشعب (المادتان 26، 41 من الدستور)، وقيمة إنسانية تقتضيها الكرامة (المادة 41) ويعمل على اسهام الكويت في ركب الحضارة الإنسانية (المادة 12) وهو أحد المقومات الأساسية للمجتمع، وله وظيفة اجتماعية (المادة 16) وله وظيفة اقتصادية لتحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين (المادة 20)، وهى قيم لم تحظ باهتمام كاف في الخطاب الديني والسياسي والثقافي والإعلامي والمجتمعي.

فالخطاب الديني، غارق حتى أذنيه، في سب اليهود والنصارى على منابر المساجد، وفي وعد هذه الأمة بنصر من عند الله قريب، ولم يستحضر قيم العمل القادرة وحدها على تحقيق هذا النصر، والتي زخرت بها الآيات البينات في قوله تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»، وقوله سبحانه «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً»، فضلاً عن أحاديث الرسول (ص) في قوله «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» و«من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له» ، و«أعطِ الأجير أجره قبل أن يجف عرقه».

والخطاب السياسي والثقافي والإداري والمجتمعي لا يألو جهداً في التركيز على العمل كحق فردي لكل كويتى من دون إيلاء أي اهتمام للقيم الأخرى للعمل؛ الإنسانية ، والدينية، والوطنية، والاجتماعية، والاقتصادية.

ولا غرو في ذلك وثقافة العمل هي جزء من الثقافة العامة التي لا تحظى في مجتمعنا العربي بأي اهتمام؛

فالبيت هو اللبنة الأولى في ثقافة أي مجتمع، والمدارس يجب أن تتعاون مع البيت في غرس هذه الثقافة، والجامعات يجب أن تكون الصرح الشامخ لها، ودور الدولة لا ينبغي أن يقف عند إنشاء الجامعات ومعاهد العلم، بل إن دورها الحقيقي يجب أن يتعدى ذلك إلى نشر الثقافة العامة بمعناها الواسع الذي يشمل السمات الروحية والفكرية والعاطفية والمادية التي تميز مجتمعاً بعينه، والذي يفتح أمام الشباب كل الآفاق في الحرية والخلق والإبداع، في ظل الالتزام المفروض على الدولة - بنص الدستور- أن تهتم خاصة بنمو الشباب البدني والخلقي والعقلي (المادة 40) وهي مادة فرضت التزاما على السلطة التشريعية بتشريع القانون الذي يضع الخطة اللازمة للقضاء على الأمية.

ومحو الأمية يجب أن يتعدى ذلك إلى محو الأمية الثقافية المنتشرة في عالمنا العربي بين المتعلمين أنفسهم، وهي أخطر أنواع الأمية، وأن غرس قيم المجتمع وتقاليده وحضارته في نفوس أبنائنا وشبابنا وأن يتلقوها جيلاً بعد جيلا ليحافظوا عليها ويثروها وينموها هو واجب وطني.

وغرس ثقافة العمل، وهي جزء من الثقافة العامة، يجب أن تبدأ بالتذكير بالمعلم الأول لقيمة العمل واحترامه، وهو الرعيل الأول، الذي غاص في البحار بحثاً عن ثرواتها وقد أحرقت الشمس محياه وحفر الجد معالمه في أساريره، عندما لم تكن قد ظهرت قطرة نفط في هذه البلاد، والنفط هو عبقرية الزمان، ولكن يبقى الإنسان القادر على التفكير والخلق والإبداع، ليعوض بقدراته ما نفد من مخزون النفط، ولينمي بها ما بقي من هذا المخزون، ليصبح النفط داعماً لنشاطه وإبداعه، بدلاً من أن يكون عامل نحر يأكل الجد والصبر والمثابرة التي كان عليها الرعيل الأول، فتشيع آفات التواكل والاعتماد الكامل على الدولة في كل متطلبات الحياة.

والإحساس بقيمة الوقت بات مفتقداً في كثير من الأجهزة الحكومية، والإحصاءات تقول إن معدل ما يقضيه الموظف في العمل هو عدد من الدقائق في اليوم الواحد، وأن هناك أجهزة أخرى من الأجهزة التي تقدم خدماتها للمواطنين، في شؤون الهجرة والجوازات أو في مؤسسات التأمينات الاجتماعية وغيرها يصارع العاملون فيها الوقت ويكابدون التعب والإرهاق، لإحساسهم أن للعمل قيمة، وأن قيمته في خدمة المواطن، ولكن الخشية على هؤلاء من أن يكون ذلك عامل نحر في جهودهم، لأن غيرهم في أجهزة أخرى يعافون الجهد، ومع ذلك يحصلون على كل ميزات الوظيفة وحوافزها.

فالخطاب السياسى غارق حتى أذنيه في المطالبة بالحقوق من دون التفات إلى الواجبات، وإلى العمل كواجب وإلى حصاد هذا العمل من إنتاج وجهد.

وقد حال ذلك كله دون أن تؤتي سياسة «التكويت» ثمارها أو تجني الكويت حصادها، لذا فعلى المطالبين بتفعيل هذه السياسة، وهي حق لا غبار عليه، أن يضعوا المعايير اللازمة والضرورية لربط الأجر والحوافز والعلاوات والترقيات وغيرها من مزايا وامتيازات بالإنتاج والإجادة والدقة والإتقان، ليتنامى الإدراك بقيمته وأهميته ولزومه.