في عام 324م أمر الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم بتشييد مدينة جديدة في موضع مدينة يونانية صغيرة كانت تعرف باسم بيزنطة، وأقيمت الاحتفالات عند الانتهاء من بنائها في الحادي عشر من مايو سنة 330م، وأصبحت المدينة التي عرفت باسم القسطنطينية عاصمة للدولة الرومانية الشرقية أو الدولة البيزنطية أو كما تعرفها المصادر العربية دولة الروم.وقد اختار قسطنطين لمدينته موقعا استراتيجيا، إضافة إلى أهميتها الاقتصادية والعسكرية فقد كانت تمثل مدخلا للبحر الأسود وتقع عند نقطة تلاقي طريقين عسكريين كبيرين: الأول هو الطريق الأوروبي المعروف بطريق إجناسيا، والثاني هو الطريق القادم من خلقدونية باتجاه الشرق وكان لوقوع القسطنطينية عند مضيق البسفور الفاصل بين آسيا وأوروبا أثره في سعي البيزنطيين إلى تحصين المدينة، فشيدت لها أسوار من جهة البر؛ أما جهتها المطلة على البحر فلم تكن بها في البداية تحصينات حربية، وكانت نقطة ضعفها الرئيسية اعتمادها في التزود بالغذاء والماء على المناطق الواقعة خارجها، فإمدادات القمح كانت تأتيها من مصر ولم تكن بداخلها سوى ثلاثة آبار للمياه.
ومنذ نشأة الدولة الأموية أخذ المسلمون يتطلعون للاستيلاء على القسطنطينية فشنت جيوش الأمويين هجومين عليها عام 48هـ (668م) و54هـ (674م) ورغم أنهما لم يؤديا إلى افتتاحها فإن الحملة الأخيرة أسفرت عن احتلال جزيرة أرواد القريبة من القسطنطينية.
وفي عام 97هـ (716م) أرسل سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة على رأس حملة لافتتاح المدينة وظلت الجيوش الأموية تحاصر القسطنطينية ولم ترفع الحصار إلا بعد عام كامل مع اتفاق على أن يقوم الإمبراطور ليو الثالث ببناء مسجد داخل أسوار القسطنطينية.
وطوال العصور الوسطى كان هناك حي إسلامي حول هذا المسجد يسكن به تجار المسلمين خاصة من أهل الشام وقد أعيد تعمير المسجد في عهد الإمبراطور قسطنطين مونوماخوس حوالي عام 1049م وأقيمت به الخطبة باسم السلطان السلجوقي طغرل بك.
ومنذ ظهور إمارة العثمانيين في آسيا الصغري أخذ أمراؤها الأتراك في الزحف على الممتلكات البيزنطية واقتطاعها تمهيداً للزحف على القسطنطينية. فاستولى عثمان على بروسا في عام 726هـ (1326م) وحوّلها ابنه أورخان إلى عاصمة للدولة العثمانية، ثم استولى هذا الأمير على نيقية من دون قتال عام 731هـ (1331م).
وفي خطوة مهمة استولى مراد بن أورخان على مدينة أدرنة على الشاطئ الأوروبي واتخذها حاضرة لدولته وأصبح الإمبراطور البيزنطي تابعا من الناحية السياسية للسلطان العثماني الذي بات يتدخل بقواته في الخلافات الداخلية بين البيزنطيين أنفسهم.
وجاء صعود محمد الثاني إلى عرش العثمانيين لتبدأ مرحلة جديدة من العمل من أجل تحقيق حلم المسلمين الأوائل بالاستيلاء على القسطنطينية وأعد لذلك حملة عسكرية انتهت بالاستيلاء عليها في يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر جمادى الأولى عام 857هـ (29 مايو 1453م) وأصبحت القسطنطينية حاضرة للدولة العثمانية بعد أن تحول اسمها إلى مدينة الإسلام أو إسلامبول، وتلقب السلطان محمد الثاني باسم محمد الفاتح لنجاحه في فتح القسطنطينية.
وتعد حملته على المدينة من أشهر العمليات العسكرية في التاريخ، ليس فقط لقصر أمدها (بدأ الحصار في 4 - 5 أبريل ودخلها 29 مايو) ولكن لقيامه أيضا بنقل السفن براً من البسفور إلى نهاية خليج القرن الذهبي ليلة 23 أبريل 1453م لتجد القسطنطينية نفسها تحت طائلة نيران المدفعية العثمانية الأمر الذي أتاح لاستراتيجيات محمد الفاتح وقائده الألباني الشهير زاجان باشا أن تؤتي ثمارها إذ اشتملت على قصف مدفعي مركّز للأسوار وحفر للأنفاق للوصول إلى المدينة أسفل الأسوار مع تسلق الجنود الأبراج من الخارج بسلالم خفيفة، بل أيضا بناء برج خشبي متحرك يصادم أسوار القسطنطينية ويشرف عليها بنيران البنادق.
وهكذا تحولت القسطنطينية من مدينة شبه مهجورة قبيل افتتاح العثمانيين لها إلى حاضرة لدولة تركية فِتيّة، وشرَع سلاطين العثمانيين في الاهتمام بعمارتها خصوصا بعد أن أعلن سليم الأول تلقبه بلقب الخلافة عقب نجاحه في الاستيلاء على أراضي الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز.
وأصبحت إسلامبول أو إسطنبول أو الأستانة هي آخر حاضرة للدولة الإسلامية وكانت تعرف أيضاً في مصطلح العصور الوسطي باسم «الباب العالي» نسبة إلى قصر السلطان العثماني ساكنها، ورغم ذلك ظل اسمها القديم «القسطنطينية» متداولا على الأفواه، بل ظل ينقش على بعض نقود العثمانيين.
وعلى عهد محمد الفاتح تم تحويل كنيسة أيا صوفيا الشهيرة إلى مسجد جامع وهيمنت أيا صوفيا بقبتها المركزية الهائلة على تصميم المساجد العثمانية التي تميزت تقليديا باستخدام القباب الكبيرة والصغيرة وأنصاف القباب أيضاً في تغطية بيوت الصلاة.
وفي إسطنبول التي أضحت عاصمة سياحية بعد تحويل العاصمة السياسية إلى أنقرة في عهد كمال الدين أتاتورك، العديد من المعالم المعمارية التي منحت المدينة شهرتها السياحية ومنها جامع سليم الأول ومجموعة السلطان سليمان القانوني، وكلاهما من إبداعات المعماري التركي الشهير سنان باشا.
ومن أجمل الجوامع تلك التحفة المعمارية والزخرفية التي شيدها الخليفة العثماني أحمد الثالث في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري (18م).
وتعد قصور العثمانيين، لاسيما تلك القريبة من البسفور أوضح عنوان على ما بلغته إسطنبول من بهاء ورونق خلال الحكم العثماني، ولعل أشهرها قصر طوبقابوسراي الذي تحول اليوم إلى متحف يقصده الزوار ليس فقط لمشاهدة قاعاته الرخامية وزخارفها الفائقة الجودة والمنفذة بإسراف لا مثيل له، ولكن أيضاً لمطالعة المتحف والمقتنيات الفنية التي كانت بحوزة سلاطين العثمانيين وهي تنتمي إلى الأقاليم التي أخضعها العثمانيون لسلطانهم في قارات العالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا) وتحوي ضمن موجوداتها كنوزاً فنية بالمعني الحرفي للكلمة.
وهناك أيضاً مكتبة هذا المتحف والتي تضم ما كان بحوزة البلاطات العثمانية من مخطوطات نادرة وتصاوير فنية اقتناها الخلفاء من أعمال الفنانين الأتراك والإيرانيين والهنود والأوروبيين أيضاً.
وقد تميزت إسطنبول في نسختها العثمانية بالتقاليد نفسها التي كانت سائدة في القسطنطينية، من جهة تخصيص أحياء لإقامة جاليات بعينها. فقديماً كانت هناك أحياء لتجار جنوة وللمسلمين وأيضاً للاتينيين والكاثوليك الذين يخالفون المعتقد الارثوذكسي للدولة البيزنطية، أما خلال العهد العثماني فكانت هناك أحياء لإقامة الأجانب وأهمها حي كان يقع قرب الميناء وكان يسمح في حوانيته لهؤلاء بتناول الخمور والأكل أثناء نهار شهر رمضان، ولا يسمح لهم بإظهار الإفطار خارج نطاق هذا الحي.
وتعددت أسواق إسطنبول القديمة ومنها سوق السمك والسوق المصري الذي مازال محتفظا بنفس التسمية إلى اليوم وتباع فيه تقليديا التوابل والأصباغ. وكانت هناك حوانيت مفردة لبيع المياه الصالحة للشرب في قنينات جميلة وكانت تجلب من أنهار أوروبا القريبة كالدانوب ومن دجلة والفرات ولكن أغلاها سعرا كانت مياه النيل التي كان السلطان العثماني لا يشرب سواها.
وتكتسي إسطنبول في رمضان حلة من الإضاءة الغامرة أسوة بما كان يجري خلال عهود الخلفاء العثمانيين ولا يكاد أمرها في هذا الشهر يختلف كثيراً عما لاحظه الرحالة الأوروبيون الذين زاروها في القرن التاسع عشر إذ استرعى انتباههم قلة الحركة في الشوارع أثناء نهار رمضان بينما تزدحم الطرقات بالليل لتغص بالنساء والأطفال وهم يشترون أصنافا شتى من الحلوى التي اشتهر الأتراك بصنعها بالإضافة إلى فطائرهم المحشوة باللحوم.
وعلى الرغم من أن إسطنبول قد تأثرت بحركة العمران الحديثة وصارت مبانيها الجديدة تضارع منشآت أعرق العواصم الأوروبية فإن طابعها الإسلامي العثماني يبدو دامغا ليس فقط لوجود العشرات من المساجد والقصور العثمانية ولكن أيضا بسبب احتفاظ الأحياء القديمة بتخطيط شوارعها وبانتشار الأسواق والمنتجات التقليدية في حوانيتها.
إسطنبول حاضرة أرادها قسطنطين أن تضارع روما وأرادها العثمانيون باباً عالياً لدار الإسلام فكانت كما أرادوا جميعا. ورغم انحسار المجد القديم تظل المدينة قبلة للزوار من كل حدب وصوب للاستمتاع بأجوائها التاريخية ورفاهيتها الحديثة أيضاً.