Ad

الأمكنة والأزمنة والبشر... ثلاثية حياة تصنع التاريخ وتشكل عصب الماضي والمستقبل واللحظة الراهنة، فحنين البشر إلى المدن والأزمان القديمة

لا يخمد، فلكل مدينة تاريخها وتواريخها وأبطالها وأماكنها التي شهدت العديد من الاحداث على مر الأزمان، وبرغم كبر واتساع المدن الآن وعمليات التغيير والتطوير التي طرأت عليها، فإن هناك دوما ما يحمل عبقها القديم وملامحها الأصيلة وذكرياتهاالتليدة... هنا جولة في ربوع المدن والحواضر الإسلامية، حيث أنفاس التاريخ تمتزج مع أنفاس البشر.

عندما دخل المسلمون إلى الأندلس قبيل نهاية القرن الهجري الأول، كانت إشبيلية مجرد مدينة صغيرة، وقبل أن تسقط المدينة في أيدي ملوك قشتالة من نصارى إسبانيا كانت إشبيلية قد أصبحت واحدة من أكبر وأشهر مدن القارة الأوروبية.

وعلى الرغم من محاولات ملوك الإسبان لتغيير معالم هذه الحاضرة الإسلامية، فما برحت، بفضل بقية من أوابدها المعمارية تقف شاهد عيان على عظمة حضارة الإسلام في الأندلس.

أسست العناصر الإيبرية هذه المدينة الواقعة في جنوب البلاد تحت اسم «أشبالي»، وبعدما دخلها الرومان سنة 205 قبل الميلاد صارت تعرف باسم لاتيني هو «أشباليس»، وعرّب المسلمون هذا الاسم الأخير إلى إشبيلية واشتق الإسبان بدورهم منه الاسم الحالي للمدينة سيفيليا Sevilla.

تقع إشبيليه على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير قرب مصبه في خليج عميق بحيث كانت مؤهلة لأن تكون ميناء بحرياً في جنوب الأندلس، وكانت المدينة قبل دخول المسلمين إلى شبه جزيرة إيبريا حاضرة لدولة القوط الغربيين إلى أن نقل الملك ليوفخلدو العاصمة إلى طليطلة سنة 567م. ولم يستطع الفاتحون المسلمون الاستيلاء على إشبيلية في موجة الهجوم الأولى التي قادها طارق بن زياد، لكنهم وصلوا إليها في موجة ثانية من الفاتحين قادها موسى بن نصير، وتم افتتاحها بعد حصار دام عدة شهور نظراً لحصانة أسوارها الحجرية.

وقع اختيار موسى بن نصير أول ولاة الأموميين في الأندلس على إشبيلية لتكون حاضرة لولايته، وذلك لوقوعها على مقربة من الشاطئ المغربي، حيث توجد قواعد الجيوش الإسلامية، لكن هذا الامتياز لم يستمر لأكثر من ثلاث سنوات، إذ أدى تسارع الأحداث بعد عزل موسى فاتح الأندلس إلى مقتل ابنه والوالي من بعده عبدالعزيز بن موسى في سنة 98هـ (717م)، وفشل خاله ايوب بن حبيب اللخمي في الاحتفاظ بكرسي الولاية لأكثر من أشهر قليلة، وعندما تولى الحر بن عبدالرحمن الثقفي أمر الأندلس في نهاية عام 98هـ، أمر بتحويل العاصمة الأندلسية إلى مدينة قرطبة.

وقد أثر هذا التحول على الوجود العربي في المدينة، إذ فضل أغلب الفاتحين النزوح للإقامة في قرطبة ولم يبق في المدينة سوى عدد قليل من العرب، فيما زخرت المدينة بعدد كبير من النصارى الإسبان بوصفها المركز الديني المسيحي الأول في إسبانيا منذ عهد القوط الغربيين.

لكن هذا الوضع الاستثنائي لم يستمر لأكثر من ربع قرن، ذلك أن الخلافة الأموية أرسلت فرقة من الجيش الأموي كانت تعسكر في مدينة حمص للإقامة في إشبيلية وحماية سواحلها، وما إن دخلت المدينة في عام 742م حتى أخذت القبائل العربية في التدفق على إشبيلية من بني موسى من بيت غافق وبني زهرة وبني حجاج وبني خلدون، وقد ألفت هذه القبائل فيما بعد عماد الأرستقراطية العربية في إشبيلية.

ونظراً للتسامح الذي عامل به العرب نصارى إشبيلية، فقد توطدت العلاقات فيما بين العنصرين وكثر زواج الفاتحين من الأندلسيات ونشأ عن ذلك جيل من الإسبان المسلمين عرفوا بالمولدين، حتى أصبحوا في نهاية القرن الثالث الهجري (9م) يشكلون غالبية سكان إشبيلية، واحتل اليهود مكانة متميزة في هذه المدينة نظراً لاشتغالهم بالتجارة ولكونهم قد انضموا الى المسلمين وآزروهم منذ الفتح الإسلامي وسهلوا بذلك دخولهم إلى المدينة.

شهدت إشبيلية أزهى عصورها بعد نجاح عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) في تأسيس الدولة الأموية الغربية في الأندلس، وقد اهتم أمراء وخلفاء هذه الدولة بأمر المدينة التي كانت المحطة الأولى في رحلة صقر قريش لاستعادة ملك أجداده.

فقد أنشأ الأمير عبدالرحمن الثاني (الأوسط) مسجداً جامعاً في إشبيلية في سنة 829م، لكن غزاة الشمال من النورمانديين (الفايكنج) الذين هاجموا إشبيلية سنة 884م ونجحوا في اقتحامها بقواربهم الشراعية السريعة، قاموا بإضرام النار في هذا المسجد وخربوا بعض قصور الأمويين في المدينة أثناء قيامهم بالسلب والنهب، قبل أن يتمكن المسلمون من هزيمتهم وطردهم من المدينة، وقد أدت هذه الهجمات التي شنها الفايكنج إلى تنبيه الأمويين إلى أهمية تحصين إشبيلية فأنشأوا سوراً حولها وأقاموا بها داراً لصناعة السفن الحربية التي شكلت نواة الأسطول الأموي فيما بعد.

وقد شهدت غشبيلية تمرداً واسعاً أدى إلى نجاح العصاة في الاستقلال بها، حيث استبد بها إبراهيم بن حجاج أحد زعماء المدينة وأشرافها، واستمر بنو الحجاج يحكمون المدينة إلى أن تولى عبدالرحمن بن محمد المعروف بعبد الرحمن الثالث (الخليفة الناصر فيما بعد) إمارة قرطبة، وعزم على إخضاع الثائرين وتوحيد الأندلس تحت راية خلافية، ونجح عبدالرحمن الناصر بالفعل في ذلك وانضوت إشبيلية تحت لواء قرطبة.

وعقب سقوط دولة الخلافة الأموية في قرطبة استولى المعتمد بن عباد على مقاليد الأمور في إشبيلية سنة 1042م وفي عهد بني عباد شهدت المدينة ازدهاراً لم تشهده من قبل وأضحت أعظم مدن الأندلس بعد انهيار قرطبة، ومع قصور ابن عباد ازدهرت الحركة الأدبية والفنية في إشبيلية التي أصبحت قبلة الشعراء والأدباء والمعماريين والفنانين.

وسرعان ما انهارت دولة بني عباد وأصبحت تدفع الجزية لملوك قشتالة من النصارى، وما لبث المرابطون الذين جاؤوا من المغرب للدفاع عن مدن الأندلس التي كانت تتساقط تباعاً في أيدي الأسبان، أن التفتوا بعد انتصارهم في موقعة الزلاقة الشهيرة إلى ملوك الطوائف الذين كانوا السبب الرئيس في نكبة الأندلس.

وراح المرابطون يعزلون ملوك الطوائف الواحد تلو الآخر، وقد دخلوا إشبيلية في سنة 1091م، وقبضوا على المعتمد بن عباد وجردوه من ثرواته قبل أن ينفوه إلى المغرب، حيث مات هناك وحيداً معدماً.

ومع انهيار دولة المرابطين، اجتازت جيوش الموحدين مضيق جبل طارق قادمة من المغرب وبايع أهل إشبيلية عبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين سنة 1156م، فاختارها حاضرة لملكه في الأندلس وعادت إشبيليه لتحتل موقع الصدارة بين مدن الأندلس.

ثم تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة سنة 1164م وكان محباً للآداب والفنون والفلسفة، برغم ميوله الحربية، وكانت إشبيلية أقرب إلى قلبه من مراكش حاضرته في المغرب، إذ أنه من مواليد قرطبة وقضى قدرا كبيراً من طفولته في إشبيلية، وقد اختص يوسف هذه المدينة بعدد من أجمل عمائر الموحدين في الأندلس فشيد بها القصور والمساجد وحرص على تجميل حاضرة ملكه التي ازدانت في حلل من الجمال خلال عهد ابنه أبي يوسف يعقوب المنصور.

استحق يعقوب أن يلقب بالمنصور بعد انتصاره على جيوش قشتالة في موقعة الأرك الشهيرة (يوليو 1195م)، وقد أراد هذا القائد أن يخلد انتصاره التاريخي فقرر أن يشيد مئذنة سامقة لمسجد إشبيلية الجامع، فجاءت صومعة شاهقة الارتفاع تطل في إباء ورشاقة على فحص إشبيلية (حديقتها الكبرى) وما يحيط به من المنطقة المعروفة بالشرف.

وقد أمر المنصور بعد موقعة الأرك بصنع تفاحات اربع مذهبة لتكلل المئذنة ورفعت «التفافيح» في حضوره وركبت بالسفود البارز بأعلى القبة، وأزيحت عنها الأغشية التي كانت تكسوها فبهرت ببريقها أنظار الحضور.

وقد تحولت هذه المئذنة التي كانت رمزا للسيادة الإسلامية، إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع وهي تعرف اليوم باسم «الخيرالدا» لأنها زودت في أعلاها بتمثال من البرونز يرمز للسيادة المسيحية صنعه بروتولوس موريل سنة 1567م بحيث يدور مع الرياح، ومنها جاءت تسمية المئذنة باسم الجيرالدا أو الخيرالدا لأن كلمة دوارة الرياح في الإسبانية تعني خيرالديو.

ويبلغ ارتفاع الجزء الإسلامي من هذه المئذنة 69.65م، أما قاعدة التمثال فهي إسبانية قشتالية.

وعقب هزيمة جيوش الموحدين أمام الإسبان في موقعة العقاب سنة 1212م، بدا واضحاً أن نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس قد أوشكت، وقد حاول الخليفة الموحدي إدريس بن أبي يوسف يعقوب أن يعيد الى أشبيليه رونقها الذي كانت عليه أيام أبيه المنصور، فعمد إلى تحصينها أمام الخطر المسيحي فأقام بها في سنة 1221م برجاً ضخماً هو برج الذهب المشهور الذي لايزال قائماً إلى اليوم، ثم جدد أسوار المدينة وشيد أمامها سورا جديدا يتقدمه خندق مائي دفاعي.

ولكن موت هذا الخليفة أعقبه تتابع سقوط المدن والحصون التي كانت تشكل خط الدفاع الأول عن إشبيلية مثل قرطبة وقرمونة وحصن القصر والقلعة وحصن الفرج وقلعة جابر.

وفي 22 ديسمبر سنة 1248م دخلت جيوش قشتالة مدينة إشبيلية بعد حصار دام قرابة العام ونصف العام وقاست المدينة أهوال الجوع قبل أن تستسلم للإسبان.

ونظراً لقرب المدينة من الساحل المغربي فقد خشي فرناندو الثالث أن تطرقها الجيوش الإسلامية بغرض استعادة السيطرة عليها، لذا عمد إلى إعادة تجديد قلاعها وأسوارها كما دفع بالمزيد من المقاتلين الإسبان الى الإقامة بها.

وبرغم هذه الإجراءات، استمرت العناصر الإسلامية التي أجبرت على إظهار التنصر (المدجنون) تلعب دوراً مهماً في حياة إشبيلية على مختلف الأصعدة الاجتماعية والمعمارية والفنية، وقد منح هذا الدور الذي استمر قرابة القرن من الزمان بعد سقوطها بأيدي القشتاليين لمدينة إشبيلية، طابعاً خاصاً بين المدن الإسبانية، فهي إلى اليوم تحمل بين ثنايا طرقاتها عبيراً أندلسياً لا يخفى على زوارها.