Ad

ساهمت الثورة الهائلة في مجال تقنيات البث في تحويل الإنسان الفرد، رجل الشارع، هذا البسيط الذي لا يعرفه أحد خارج الديرة، إلى شخصية عامة، يتداول الآلاف، وربما الملايين، صوره وكلماته، فيغدو المسكين مفضوحاً أو مسجوناً أو مطارداً.

لقد أصبحت شخصية عامة، ولم تعد تتمتع بذلك الحد الفاصل بين ما هو شخصي وما هو عام، باتت تصرفاتك كلها عرضة لتسليط الأضواء عليها، وحياتك الشخصية مجالاً للتطفل وفضول الآخرين.

أنت اليوم شخصية عامة، حتى وإن كانت الكاميرات وأجهزة التسجيل لا تطاردك في كل لحظة، فإنها ربما تصطادك في لحظة ما، مهما كانت خاصة أو حميمية أو حتى مخزية، وفي دقائق، ستكون أشهر من بوش وكوندوليزا رايس، وربما تقودك شهرتك الجديدة إلى السجن أو الفصل من عملك.

فإذا كنت واقفاً أمام ماكينة الصرف الآلي، بغرض سحب بعض النقود، وأمامك صبية حلوة، فاحذر، لا تغازلها، فربما يتطور الأمر، وتسجل الكاميرا المعلقة أعلى الماكينة تفصيلات الحدث. فإذا كان حظك سيئاً، وكانت للمغازلة تداعيات مثيرة، فقد يوزع أحد موظفي البنك «الكليب» الذي قمت ببطولته على الآلاف فوراً.

وإذا كنت مخبراً تقمع تظاهرة في أحد بلداننا العربية، فاحسب تصرفاتك جيداً، فلن يفيدك الضوء الأخضر الممنوح لك من قادتك بتعليم المتظاهرين الأدب، ولن يستطيع أي منهم حمايتك مما قد يحدث لك إذا استخدم أحدهم هاتفه المحمول المزود بكاميرا، والتقط لك صورة، تفضح إحدى الممارسات التي تعودت عليها طيلة العقود الخمسة الفائتة. فصورتك وأنت تضرب شاباً، أو تجر آخر بعدما جردته من ملابسه، أو تتحرش بمتظاهرة، أو تقمع رجلاً عجوزاً، قد تنشر عبر تقنية «البلوتوث»، ومن ثم تصبح موضوعاً لمحاكمة، وربما ما هو أكثر.

لا تتهاون بعد الآن، وإن كنت لا تصدق، فتذكر أن شباناً منفلتين في مدينة خليجية تحرشوا بفتاتين في الطريق العام، فيما شريك لهم يلتقط بكاميرا هاتفه المحمول صوراً لهم اعتبرها مثيرة. وإذ «أعجبه الكليب»، فراح يوزعه على آخرين، ومن ثم وصل إلى جهة رقابية مسؤولة عن محاربة هذه السلوكيات، فتم تحديد المشاركين في التحرش، وهؤلاء قادوا إلى صديقهم الذي التقط صورهم، ليقدموا جميعاً إلى المحاكمة، فيسجنوا سنوات وصلت إلى التسع، بعدما جلدوا جراء فعلتهم الكريهة.

وهذا الضابط الذي جعل امتهان كرامة الآخرين بضربهم وانتهاك حرمتهم لعبة مسلية، وسمح لآخرين بتصوير مقاطع فيديو لحفلات القمع التي يقيمها حيث يعمل، فقد عمله وسمعته ومعهما مستقبله، حينما تحول شخصية عامة، وبطلاً لـ «كليب» شهير، يتداوله الناس عبر أجهزة الهاتف المحمول، ومن خلال البريد الإلكتروني، وفي المنتديات. فقد قاد «الكليب» الذي يصور معاناة فريسته وقمعه ومعاونيه لأسيره الأعزل إلى شخصه، ومن ثم اقتيد إلى المحاكمة، التي كان دليلها الأهم الفيلم الذي قام ببطولته.

وهذا الرجل الذي كان يعمل في الحملة الانتخابية لأحد مرشحي الانتخابات، وراح يوزع المبالغ المالية على الناخبين لشراء أصواتهم ومعها ذممهم، لقد تم تصويره، لتصبح صوره وثيقة في فضيحة كبيرة لاحقاً، ودليلاً دامغاً على استخدام هذا المرشح للمال السياسي لإحراز المقعد الذي لا يستحقه.

حتى تلك الفتاة المسكينة التي كانت تعبر عن عواطفها الحميمة مع صديقها، لم تكن تعرف أنها ستصبح شخصية عامة، نجمة متألقة، صاحبة أعلى الكليبات مشاهدة، في الحي والقرية وربما الإقليم كله. فقد كان أحدهم يصور اللقاء الحميم، ومن ثم استعان بما تيسر من تقنيات البث، لتجد ما فعلته قبل قليل فيلماً يعرض على شاشات الهواتف والحواسب الآلية، ويحظى بأعلى نسب المشاهدة.

لقد ساهمت الثورة الهائلة في مجال تقنيات البث في تحويل الإنسان الفرد، رجل الشارع، هذا البسيط الذي لا يعرفه أحد خارج الديرة، إلى شخصية عامة، يتداول الآلاف، وربما الملايين، صوره وكلماته، فيغدو المسكين مفضوحاً أو مسجوناً أو مطارداً، وتصير أفعاله مهما كانت خاصة أو حميمية أو إجرامية على الهواء مباشرة، ومن دون رقابة أو حجب أو تشفير، أو حتى شرائط سوداء على العينين.

في عصر «اليوتيوب»، صار كل ما يحدث داخل منزلك، أو في الحديقة العامة، وحتى في المرحاض العمومي مرشحاً للعرض العام، بعدما بات كل من يمتلك هاتفاً محمولاً أو كاميرا فيديو، ويقف، لسوء حظك، حيث تمارس أنت أفعالك غير المعتادة، مخرجاً ومنتجاً وموزعاً لفيلم مثير أنت بطله... وضحيته الوحيدة.

احذر مرة أخرى، ولا تفرح بأنك صرت شخصية عامة، واحسب تصرفاتك جيداً، في المول، حديقة المنزل، العمل، الشارع، السيارة، وربما في الفراش... فثمة كثيرون يفكرون الآن في إنتاج أفلام من بطولتك.

* كاتب مصري