تركيا وجدل الهويات!!
نجاح حزب العدالة والتنمية التركي في الفوز بالانتخابات والرئاسة حمل رسالة خطيرة ومهمة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي؛ فدعم التحديث الديموقراطي لجارهم الجيوستراتيجي وعضو حلف شمال الأطلسي، سواء كان بثوب أتاتوركي أو ارتدى بزة إسلامية، مسألة ضرورية للحد من ظاهرة الإرهاب والتطرف.
انتخب البرلمان التركي عبدالله غول رئيساً لتركيا بعد أن فاز حزب العدالة والتنمية الإسلامي بمقاعد زادت على %46 من مقاعد البرلمان، وقبل الانتخابات وخلالها وبُعيدها أثير جدل واسع حول مدى تواؤم الإسلام مع الديموقراطية، ولوّح بعضهم بإمكان حصول مفاجأة سياسية كحدوث انقلاب عسكري، يفرض فيه العسكر خيارهم بدولة علمانية وتوجه أتاتوركي ويقطع خط التطور الديموقراطي التدرّجي، الذي جاء بالإسلاميين الى السلطة.سيرة حياة الرجل عبدالله غول، الإسلامي، الليبرالي، صديق الولايات المتحدة والتكنوقراطي، تعكس تعدد الهويات الذي يبدو لبعضهم انسجاماً وتناسقاً ولبعضهم الآخر تعارضاً واختلافاً، فهو إسلامي ولا مزايدة على ذلك، وهو في بلد علماني، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، خصوصاً التوجه الأتاتوركي الذي مضى عليه 85 عاماً، وهو وحزبه استبقا الأمر بإعلان التمسك بالدولة المدنية العلمانية خياراً، وهو صديق للغرب وللولايات المتحدة تحديداً ويسعى بحماسة إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي، كما يتمتع بكفاءة عالية، وحقق منجزات طوال فترة إدارته لوزارة الخارجية إقليمياً ودولياً.ومع ذلك فثمة مخاوف وتحديات تواجه التجربة الثانية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، فكيف سيتصرف بخصوص إدارة الدولة؟ وهل سيسعى إلى سن تشريعات جديدة تؤمن غلبته ويعيّن قضاة في المحاكم بالتوجه ذاته، ويفعل ذلك في اختيار رؤساء الجامعات، إضافة إلى محاولة التأثير على قيادات الجيش؟ أي استغلال الديموقراطية، والفوز بالأغلبية، كوسيلة لفرض الأيديولوجية الشمولية، بطريقة ناعمة لتقويض أركان الدولة المدنية العلمانية.بعض القوى المعارضة تحاول دفع حزب العدالة والتنمية باتجاه الاستئثار أو التفرد، أما هو فيبدو أنه يراهن حتى الآن، على الاعتدال والوسطية وقبول استمرار الدولة المدنية وعدم التعرض لأركانها، لعله يريد بذلك قلب الطاولة على «دعاة» العلمانية أو المتشددين ضد التيار الديني، الذين بدؤوا يستغيثون ضد المسار الديموقراطي، سواء بالتظاهرات أو الاحتجاجات أو وسائل الاعلام أو غير ذلك، ولا يستبعد أن يطالب هؤلاء الجيش التركي، الذي عُرف بانقلاباته العسكرية منذ العام 1960 للتدخل وحسم الأمر مع الإسلاميين، وتجربة انقلاب كنعان ايفرين عام 1980 لاتزال قريبة من الذاكرة، وإن كانت الظروف مختلفة.لقد فشلت تدخلات المعارضة التقليدية واليسارية من ثني حزب العدالة والتنمية من ترشيح غول، سواء بالوسائل القانونية أو بغيرها، وهو ما كان قد دعا رجب طيب أردوغان إلى إجراء انتخابات عامة، مراهناً على الشارع التركي وعلى المنجزات التي تحققت خلال السنوات الأربع الماضية، رغم الصعوبات والعقبات، ولعل من أهمها العقبة الأوروبية، أي انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يلقى معارضة شديدة، خاصة من فرنسا ساركوزي أخيراً، الذي فضّل علاقات متميزة مع تركيا وليس انضمامها كدولة مسلمة إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما تذهب اليه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، أيضاً. وقد كانت «الحكومة الإسلامية» قياساً بما سبقها أكثر الحكومات ليبرالية، وأقدمت على إصلاحات سياسية واجتماعية، بما فيها تحسين سجل تركيا في ميدان حقوق الإنسان، خاصة مواقفها من المرأة ومن القضية الكردية ومن عقوبة الإعدام، كما أجرت إصلاحات اقتصادية بفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية، وحققت نمواً بحدود 7%.لعل رسالة الانتخابات كانت واضحة، حين صوّت الناخبون لمصلحة حزب العدالة والتنمية الذي فاز بـ340 مقعداً من مجموع 550، وهي تعني أن «الإسلام المعتدل» وغير المتزمّت إذا اقترن بسياسات اقتصادية واجتماعية منفتحة لا يتعارض مع الديموقراطية، الأمر الذي لا يتعلق بتركيا وحدها، بل بعموم الحركة الإسلامية التي ينبغي أن تستفيد من هذا الدرس المهم.وهذه الاشارة ترتب مسؤوليات على الاتحاد الاوروبي، سواء كانت إشارة سوء حظ أو فأل إيجابي، لكنها من دون أدنى شك رسالة خطيرة ومهمة فدعم التحديث الديموقراطي لجارهم الجيوستراتيجي وعضو حلف شمال الأطلسي، سواء كان بثوب أتاتوركي أو ارتدى بزة إسلامية، مسألة ضرورية للحد من ظاهرة الإرهاب والتطرف، والمهم هو الاستمرار في طريق الإصلاح والديموقراطية والتنمية.وعلى الاتحاد الأوروبي أن يختار تركيا الأوروبية- الإسلامية، العلمانية التعددية، كقيمة مضافة، وإلاّ سيعرّض سياسته الخارجية فضلاً عن مبادئه السياسية لمأزق حقيقي، خصوصاً أن بريطانيا ورئيس وزرائها الجديد غولدن براون من أنصار انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي، وهو موقف إسبانيا وإيطاليا واليونان رغم العداء التقليدي بين أنقرة وأثينا، وهناك دول أقل حماسة مثل بلجيكا وسلوفاكيا في حين يحمل راية المعارضة قبرص اليونانية لأسباب معروفة إضافة إلى فرنسا وألمانيا.خيارات تركيا وجدل هوياتها المتنوّعة ليس اختباراً لحزب العدالة والتنمية فحسب، بل هو اختبار للاتحاد الأوروبي الذي سيواجه تحديات لا من خارجه فقط، بل من داخله أيضاً.* كاتب ومفكر عربي