إسرائيل والمشكلة الإسرائيلية... والمشكلة العربية
إن المشكلة الإسرائيلية لا تنبع تلقائياً من وجود إسرائيل، والقضاء عليها لا يعني بحال القضاء على إسرائيل، إنه يعني القضاء على حاجتنا إلى شبح إسرائيل، فهي بنت الغرب واليهود، أما المشكلة الإسرائيلية فابنتنا نحن، لذلك فإن تغيير واقعنا هو المنطلق الصحيح للتخلص من المشكلة الإسرائيلية، ومن ثم ضبط إسرائيل.
كان إنشاء دولة إسرائيل حصيلة التقاء أربعة عناصر: الهولوكوست النازي، وتطلع الطبقة الوسطى اليهودية في غرب أوروبا وشرقها إلى إقامة دولة خاصة بها، ومصالح القوى الغربية المهيمنة في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط القريبة من أوروبا ومستودع النفط العالمي، فضلا عن كونها موطن شعوب ودين وثقافات «عرب ومسلمين» لا يُكنُّ لهم الغرب شيئاً من الود، أما العنصر الرابع ففلسطيني وعربي، جوهره تخلفنا الاجتماعي والسياسي والثقافي. كانت البرجوازية اليهودية طوّرت مشاعر قومية بالتزامن مع الموجة القومية الأوروبية الثانية في الثلث أو الربع الأخير من القرن التاسع عشر، زمن اتحاد ألمانيا وإيطاليا، وهي طبقة مثقفة عموماً، ميسورة مادياً، وتعرف الغرب جيداً، ولا تشعر بغربة عقلية فيه، لكنها تشعر بغربة سياسية وروحية، لكون عصر القوميات المتأخرة الأوروبي، في ألمانيا وأكثر في بولونيا وروسيا كان معادياً جداً لليهود، وبعد عقدين فحسب من مؤتمر بال 1897 الذي أسس للصهيونية الحركية، سيصدر تصريح وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور معبراً عن رعاية الحكومة البريطانية لمشروع دولة يهودية في فلسطين، وبعد ثلاثة عقود أخرى ستقوم الدولة الموعودة. كيف نفهم قصة النجاح هذه؟ لقد جعلت المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الغربية من قيام دولة اليهود شيئاً ممكناً، بينما جعلته تطلعات البرجوازية اليهودية المثقفة أمراً مرغوباً، أما الهولوكوست فسيضفي على قيام إسرائيل قيمة أخلاقية وخلاصية، إذ التقى الممكن والمرغوب والواجب، ولم يواجه لقاؤها بمقاومة من المستوى نفسه، أو ووجه بمقاومات مشتتة ومتخلفة وغير فعالة، فكيف للنجاح ألا يكون رابعها؟! وهكذا ستحل المسألة اليهودية، وهي مسألة غربية، بينما ستولد مسألة إسرائيلية، وهذه مشكلة عربية. ونقول مشكلة عربية لا مسألة عربية لأنه ليس ثمة ذاتية عربية قادرة على تحويل المشكلات المختلطة إلى مسائل منظمة، بعبارة أخرى مشكلة العرب مع أنفسهم أولاً، فإن حُلّت هذه سَهُلَ حلّ المسألة الإسرائيلية. غاب عن معادلة إنشاء إسرائيل بالكامل سكان البلاد الأصليون الذين كان اعتبرهم «وعد بلفور» (2 نوفمبر1917) جماعات أو جاليات أخرى في فلسطين. هذا أمر مألوف في تاريخ التوسع الاستعماري، فالتقليل من شأن السكان الأصليين وصولاً إلى إنكار وجودهم ذاته يتيح للمسيطرين الغربيين أن يجمعوا المجدين: انتهاك حقوق المسيطر عليهم، وحفاظ المسيطرين على راحة ضمائرهم وسلام نفوسهم. على أن إسرائيل لا ترتد إلى تجربة التوسع الاستعماري الغربي خلافاً لما استقرت عليه القراءة القومية العربية التقليدية. الصهاينة في فلسطين ليسوا مثل الفرنسيين والبريطانيين في بلدان المشرق والعراق ومصر، ولا حتى مثل الفرنسيين في الجزائر، وفوزهم بدعم القوى الغربية ذات التاريخ الاستعماري لا يجعل إسرائيل محض دولة استعمارية، وتحالفهم الوثيق مع القوى الغربية وقيامهم بوظائف أمنية واستراتيجية مهمة للقوى الغربية المهيمنة لا يرد الدولة العبرية إلى «دولة وظيفية» فحسب. فعدا الهولوكوست -وقد كان تجربة كاوية ومكونة للوعي اليهودي المعاصر- ثمة عقيدة «أرض إسرائيل»، وهي ليست مخترعة من عدم؛ والأهم أن هناك تاريخاً من ستة عقود لدولة مزدهرة وقوية طورت ثقافة ونُظماً اجتماعية وتعليمية وجامعية متقدمة، وتاريخاً يقارب القرن للتوطن اليهودي في فلسطين. ويلقى ذلك كله تعزيزاً من المكانة التي تحتلها إسرائيل واليهود في الغرب، الغرب ذي العالم الحديث ومثاله. يمكن الكلام عن عنصر فوق أخلاقي في ارتباط الغربيين بإسرائيل، يضفي على بقائها وأمنها وازدهارها قيمة مقدسة لا يكاد يضاهيها مقدس آخر، من المباح نقد المسيحية في أوروبا وأميركا، ومن الشائع نقد الثقافات القومية والذاكرات القومية، ومن السهل نقد الديموقراطية، لكن نقد إسرائيل، أو بالخصوص التشكيك في الهولوكوست هو أقرب شيء إلى الكفر لدينا، و«تكفيريو» الغرب متخصصون في ملاحقة أي تشكيك في الهولوكوست، وفي إسرائيل، لا يشغل بالهم نقد الديانة اليهودية أو المسيحية. يضاف إلى ذلك كله استدعاء ذاكرة اضطهاد نشيط لليهود في الغرب قبل الحديث وتمييز ضدهم في غيره، ويضاف إليه أيضاً دور بالغ الأهمية لمنحدرين من أصول يهودية في تكوين العقل الغربي الحديث والعلم الحديث، كما يضاف إليه أخيرا وزن كبير ليهود في الاقتصادات الغربية والجامعات الغربية والإعلام الغربي. على أن العامل الأهم في مشكلتنا الإسرائيلية هو مشكلتنا العربية كما ألمحنا أعلاه، وهذه مشكلة مركبة، سياسية وثقافية ومادية (أي اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية...)، وليست المشكلة هذه سراً ولا معالجتها كذلك، فلا مجال لمقاربة مثمرة للمشكلة الإسرائيلية من دون تحويل عميق في علاقات السلطة في بلداننا، بحيث يعامل سكان دولنا بطريقة تقارب معاملة إسرائيل لسكانها اليهود. فهم يعامَلُون اليوم بطريقة إسرائيلية، أي كما تعامِل إسرائيل الفلسطينيين، ولا معدى من حفز نهوض تعليمي وثقافي عام، وتوسيع قاعدة المشاركة في الثقافة الوطنية والتفاعل الثقافي العربي، ولا بديل عن إرساء هياكل إنتاجية فعالة، تثمر الميزات التفاضلية الطبيعية والبشرية في بلداننا، بما يمكّن اقتصاداتنا من التفاعل الإيجابي مع محيطها والعولمة الجارية.كل هذه التحولات يمكن أن تنجز في جيل واحد، أي في ثلاثين عاما، ونذكر أن تركيا وسورية كانتا في مستوى واحد قبل جيل فقط، وكانت مصر وكوريا الجنوبية في المستوى نفسه قبل جيل ونصف، فإن استدام تمركز نظمنا حول السلطة وبقائها الخاص، فستزداد مشكلاتنا جميعاً، ولن تحل قبل جيلين أو ثلاثة... لكن خلال جيلين أو ثلاثة قد نتحلل بدل أن تحل مشكلاتنا، وهذه عملية تجري الآن على قدمين ثابتتين. وبافتراض سيرنا نحو حل المشكلة العربية المركبة فإن المشكلة الإسرائيلية ستتجه نحو الحل تلقائياً، لا لأننا سوف «نقضي على» إسرائيل، بل لأننا سوف نكف عن الاستثمار في إسرائيل ومواجهتها والتهويل من شأنها لإدامة نظم سياسية وثقافية واجتماعية هي مشكلتنا الحقيقية. إن المشكلة الإسرائيلية لا تنبع تلقائياً من وجود إسرائيل، لذلك فإن القضاء على المشكلة الإسرائيلية لا يعني بحال القضاء على إسرائيل، إنه يعني القضاء على حاجتنا إلى شبح إسرائيل وتعللنا بإسرائيل ووهمنا حول إسرائيل، وجملة الهياكل والمادية والثقافية والسياسات، المصانعة للواقعة الإسرائيلية، لكن كذلك «الممانعة» حيالها. إسرائيل بنت الغرب واليهود، أما المشكلة الإسرائيلية فابنتنا نحن، لذلك تغيير واقعنا هو المنطلق الصحيح للتخلص من المشكلة الإسرائيلية، ومن ثم ضبط إسرائيل.* كاتب سوري