تحول فكري هائل نقل الدكتور فضل -كما كان يطلق عليه- مسافات واسعة من عوالم التنظيمات السرية ودهاليزها المعتمة، والإعداد للجهاد والعدة في أفغانستان في الثمانينيات في كتابه «العمدة في إعداد العدة» إلى عوالم الأمة (أمة الدعوة والإجابة) كما يسميها في كتابه «النصيحة في التقرب إلى الله تعالى»، وبينهما كان كتاب «الجامع في طلب العلم الشريف» الذي حاول فيه الرجل أن يؤسس لعلم جديد يستقل به، حتى عن علماء السلف الذي يكنّ لهم الاحترام والتقدير، وفي المرحلة الأولى نجد كتاب «العمدة في إعداد العدة» والذي ألَّفه بتكليف من قادة المجاهدين الأفغان لترتيب أوضاع معسكرات الجهاد وتنظيم الحياة فيها، وقد بدا المؤلف مجتهدا في سياق قواعد الفقه السني التقليدي، وهو ما يجعلنا نرجح أنه كتبه في وقت كان لا يزال منتمياً إلى تنظيم الجهاد المصري، أما في كتاب «الجامع في طلب العلم الشريف» والذي يعد موسوعة ضخمة تزيد على الألف صفحة في مجلدين فنجد المؤلف عبدالقادر بن عبدالعزيز -كما كان يطلق عليه آيضاً- ينتقل من الفقه إلى العقيدة ويحاول التأسيس لقواعد علمية جديدة يتجاوز بها علماء السلف ويخرج على مناهجهم في التفكير والتخريج، إنه يحاول اكتشاف الحق وبناء فرقة ناجية لها طابع الكمال المثالي، وهنا يواجه المؤلف -في تقديرنا- أزمة نفسية تجعله ينتقل من الأحكام العلمية الفقهية إلى القضايا العلمية الاعتقادية التأسيسية، وهو ما يجعلنا نقطع بأن الكتاب ألَّفه المؤلف بعد انفصاله عن تنظيم الجهاد عام 1993، وفي الواقع فإن النموذج الذي يسعى إلى تأسيس «نظرية معرفة جديدة» هو تعبير عن نفسية تواجه «أزمة»، وفي الحالة الإسلامية المعاصرة نجد أن من حاول أن يفعل ذلك هو «شكري مصطفى» أمير جماعة المسلمين -المعروفة بالتكفير والهجرة-. وفكر التكفير في التحليل النهائي هو تعبير عن موقف نفسي من المجتمع والجماعة والأمة، ويبدو «سيد إمام» في كتاب الجامع مغاضباً للتنظيم الذي كان ينتمي إليه وتركه، ومن هنا توسع في أحكام التكفير على الناس، كما صب جام غضبه على دوائر عديدة لم تسلم من انتقاداته مثل الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، ويبدو أنه تنبه إلى أن الكتب التي كتبها قد جرى توظيفها في صراعات أنتجت دماء وقتلى بشكل لم يكن يريده أو يرغبه أو يقصده، وهنا شعر بالقلق والخوف والتوتر فهو كان يقصد بالأساس هداية الناس وإرشادهم إلى أن يكونوا من «الفرقة الناجية»، إنه يبحث عن المسلم الكامل المثالي ومن ثم فقد كان متوقعا له مساراً فكريا جديدا يخرجه من أزمته النفسية التي ألمت به وهو العودة مرة أخرى إلى مرافئه الأولى، وهي الانتقال من «فقه الضرورة والاستثناء» إلى فقه الجماعة والأمة»، والانتقال بخطابه من فئة خاصة أو منظمة إلى عموم الناس جميعا، فطبيعة الدعوة الإسلامية أنها للناس كافة، ومن ثم كان كتابه «النصيحة في التقرب إلى الله»، وكان كتابه «وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم»، وفي الكتابين الأخيرين ينتقل المؤلف من لغة القطيعة والمغاضبة إلى حديث التواصل والمؤانسة، ومن لغة الاعتداد والشقاق إلى لغة التواضع وخفض الجناح.

Ad

اكتشف «سيد إمام عبدالعزيز الشريف» أنه في مسيرته الحركية والتنظيمية التي امتدت لما يزيد على الثلاثين عاماً أن علمه ليس إحياءً أو تجديدا لأنه لا يستخدمه كما كان يفعل العلماء الكبار من أجل الأمة، وإنما في مواجهتها، ومن ثم فإن أي علوم تستخدم لإطلاق أحكام على عموم الأمة بالتكفير أو الخروج من الملة أو الردة هي تعبير عن مشكلة نفسية ولا تدخل ضمن حركة التجديد أو الإحياء بأي حال، وفي الخبرة الإسلامية عرفنا علماء كبارا مثل «أبي حامد الغزالي» الذي كتَب كتاب «إحياء علوم الدين» لمواجهة النزعة الفلسفية التي فشت في العالم الإسلامي في ذلك الوقت (القرن الخامس الهجري)، وكان قد اشتغل بالفلسفة والتصوف حينا من الدهر، لكنه رجع عنهما من أجل أمته، وكذلك سيد إمام حين يراجع ما كتبه فإنه يفعل ذلك من أجل مصير أمته وأجيالها القادمة بإرادة حرة ووعي مدرك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا يمنع المرء اجتهاد اجتهد فيه فراجع فيه عقله وهُدي فيه إلى رشده أن يرجع إلى الحق فإنه قديم لا يبطله شيء.