في مقالي في هذه الزاوية يوم الاثنين الماضي، وتحت عنوان «قانون التجمعات وفارس الحريات»، استعرضت المبادئ الدستورية التي كشف عنها الحكم الصادر بتاريخ 15/4/1995
من المحكمة الدستورية العليا في مصر، برئاسة فارس الحريات، الدكتور/ عوض المر «رحمه الله»، وهو الحكم الذى ربط بين حق الاجتماع وبين كل من حرية التعبير وحق الانتخاب والتفكير الجماعى. ونضيف في هذا المقال ما كشف عنه هذا الحكم، من وجوب امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون، وفي الحدود التي تتسامح فيها النظم الديمقراطية، وترتضيها القيم التي تدعو إليها، وأنه إذا كفل الدستور حقاً من الحقوق، فإن القيود التي ترد عليه، لا يجوز أن تنال من محتواه، إلا بالقدر، وفي الحدود التي ينص عليها الدستور.*الحقوق والحريات... حقوق كونية:وجاء الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية في الكويت بتاريخ أول مايو سنة 2006 بعدم دستورية بعض نصوص قانون التجمعات، ليتوج المبادئ الدستورية السابقة، وليؤكد أن الحقوق والحريات حقوق كونية، فيما أسهب فيه الحكم عندما قرر أن حريات وحقوق الإنسان لا يستقل أي مشرع بإنشائها، بل إنه فيما يضعه من قواعد في شأنها لا يعدو أن يكون كاشفاً عن حقوق طبيعية أصيلة، ولا ريب في أن الناس أحرار بالفطرة، ولهم آراؤهم وأفكارهم، وهم أحرار في الغدو والرواح، فرادى أو مجتمعين، وفي التفرق والتجمع مهما كان عددهم ما دام عملهم لا يضر بالآخرين، وقد غدت حريات وحقوق الإنسان جزءاً من الضمير العالمي واستقرت في الوجدان الإنساني، وحرصت النظم الديمقراطية على حمايتها وتوفير ضماناتها، كما درجت الدساتير على إيرادها ضمن نصوصها تبصيراً للناس بها.*نطاق الدعوى الدستورية:وحاصل وقائع الدعوى الدستورية التى أصدرت فيها المحكمة الدستورية فى الكويت حكمها السالف الذكر، أن دفعاً بعدم الدستورية أثير من المتهمين في الجنحة رقم (223) لسنة 2004 حصر الأحمدي، وقد انصب هذا الدفع على المادتين 4 و16 من المرسوم بقانون رقم (65) لسنة 1979 في شأن الاجتماعات العامة والتجمعات، فيما نصت عليه المادة (4) من عدم جواز عقد الاجتماع العام وتنظيمه من دون الحصول على ترخيص بذلك من السلطة المختصة، وحظر الدعوة إلى هذا الاجتماع أو الإعلان عنه قبل الحصول على هذا الترخيص.وإذ تبين للمحكمة الدستورية عدم دستورية هاتين المادتين، فقد قضت بذلك وأسست هذا القضاء على مخالفة أحكام هاتين المادتين للمادة (44) من الدستور، التي تنص على أن (للأفراد حق الاجتماع دون حاجة لإذن أو إخطار سابق، ولا يجوز لأحد قوات الأمن حضور اجتماعاتهم الخاصة والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، على أن تكون أغراض الاجتماع ووسائله سلمية ولا تنافي الآداب).*عدم دستورية المادتين (4) و(16):وخلصت المحكمة الدستورية في حكمها السالف الذكر إلى القضاء بعدم دستورية المادتين (4) و(16) السالفتي الذكر تأسيساً على ما جاء في أسباب الحكم من أن «المادة (4) من المرسوم بقانون، إذ جاء نصها على عدم جواز عقد اجتماع عام أو تنظيمه إلا بعد الحصول على ترخيص في ذلك من المحافظ الذي سيُعقد الاجتماع في دائرة اختصاصه، ومنع وفض كل اجتماع يُعقد من دون ترخيص، وحظر الدعوة إلى أي اجتماع عام أو الإعلان عنه أو نشر أو إذاعة أنباء بشأنه قبل الحصول على هذا الترخيص، وجعل هذا النص الأصل في الاجتماعات العامة هو المنع، وأباحها استثناءً، وأقام هذا الاستثناء على أساس واحد هو سلطة الإدارة المطلقة حيال هذه الاجتماعات من دون حد تلتزمه، أو قيد تنزل على مقتضاه، أو معيار موضوعي منضبط يتعين مراعاته دوماً، مخولاً لها هذا النص اختصاصاً غير مقيد لتقدير الموافقة على منح الترخيص به، أو عدم الموافقة عليه، وبغير ضرورة موجبة تقدر بقدرها فتدور معها القيود النابعة عنها وجوداً وعدماً، بحيث تتمخض سلطة الإدارة- في نهاية المطاف- سلطة طليقة من كل قيد لا معقب عليها ولا عاصم منها.وقد أسست المحكمة هذا القضاء على محصلة من الأسباب، هي:*حق الاجتماع من دعامات الحكم الديمقراطي:وجاء في أسباب الحكم أن الدستور فيما نص عليه في المادة (6) من أن نظام الحكم في الكويت ديمقراطي والسيادة فيه للأمة، ردد في نصوص مواده وفي أكثر من موضع الأحكام والمباديء التي تحدد مفهوم الديمقراطية التي تلمس طريقها خياراً، وتشكل معالم المجتمع الذي ينشده سواء ما اتصل منها بتوكيد السيادة الشعبية وهي جوهر الديمقراطية، أم بكفالة الحريات والحقوق العامة وهي هدفها، أم بالمشاركة في ممارسة السلطة وهي وسيلتها.واعتبر الحكم أن الحقوق والحريات هى من الدعامات الأساسية التي لا يقوم أي نظام ديمقراطي من دونها، كما تؤسس الدول فى ضوئها مجتمعاتها، دعماً لتفاعل مواطنيها معها، بما يكفل توثيق روابطها، وتطوير بنيانها، وتعميق حرياتها.*لا انتقاص من الحق الدستوري بتنظيم تشريعي:وقد ساقت المحكمة في أسباب قضائها السالف الذكر على ما استخلصته من نصوص الدستور المقررة للمساواة والحريات المختلفة، أن المشرع فيما يسنّه من قوانين تنظيماً لها، يجب عليه ألا يجاوز الحدود والضوابط التي فرضتها هذه النصوص، أو ينال من أصل الحق، أو يحد من ممارسته، أو يحيد عن الغاية من تنظيمه على الوجه الذي لا ينقص معه الحق أو ينتقص منه.وأن هذه الحريات قد أضحت نظاماً اجتماعياً وحقاً للأفراد ضرورياً للمجتمعات المدنية لا يجوز التفريط فيه أو التضحية به إلا فيما تمليه موجبات الضرورة ومقتضيات الصالح المشترك للمجتمع، وأن الحريات العامة إنما ترتبط بعضها بعضاً برباط وثيق بحيث إذا تعطلت إحداها تعطل سائر الحريات الأخرى، فهي تتساند جميعاً وتتضافر ولا يجوز تجزئتها أو فصلها أو عزلها عن بعضها، كما أن ضمانها في مجموع عناصرها ومكوناتها لازم، وهي في حياة الأمم أداة لارتقائها وتقدمها.*مراعاة النظام العام والآداب العامة:وقررت المحكمة أن نصوص الدستور من جانب آخر قد وضعت قيداً على الأفراد في ممارسة حقوقهم وحرياتهم بوجوب مراعاة النظام العام واحترام الآداب العامة، باعتبار ذلك واجباً عليهم، كما أوردت المذكرة التفسيرية للدستور في مجال الحقوق والحريات بصفة عامة (أن الحريات تلتزم بقيد عام لا يحتاج لنص خاص، وإن ورد النص عليه صراحة في المادة (49) من الدستور، وهو أن يراعي الناس في ممارسة ما لهم من حقوق وحريات النظام العام والآداب).*رقابة خارج نطاق الدعوى الدستورية:ومن ثم كان الحكم بعدم دستورية نص المادتين (4) و(16) من قانون الاجتماعات العامة والتجمعات، كافياً لتحكم المحكمة الجزائية ببراءة المتهمين فيما نسبته إليهما النيابة العامة من الإعلان ورعاية وتنظيم وعقد اجتماع عام، من دون الحصول على ترخيص بذلك من السلطة المختصة.وهو ما يطرح سؤالاً مهماً هو: لماذا بسطت المحكمة رقابتها الدستورية على (13) مادة أخرى في القانون سالف الذكر لتقضي بعدم دستوريتها؟ وهل هناك تحول فى القضاء الدستورى فى الكويت، إلى مزيد من الشرعيه الدستورية؟ ذلك ما نحاول الإجابة عنه في مقال قادم بإذن الله.
مقالات
ما قل ودل: قانون التجمعات والمحكمة الدستورية
05-05-2008