من رحمة الله ولطفه على عباده أن قهرهم بالموت، وجعل من هذه السُنة الكونية وعاءً من العبر والاعتبار ومحطة لظهور المشاعر الحقيقية بعيداً عن الزيف والمجاملات والمصالح، التي في الغالب تحدد وتوجه طبيعة العلاقات البشرية في بعدها الايجابي، مثلما ترسم الخلافات والصراعات والأنانيات في البعد السلبي من تلك العلاقات. والمرحوم الدكتور أحمد الربعي يعتبر أحد الدلالات البارزة لمثل هذه العبر على المسرح السياسي الكويتي، ودلالة ذلك التشييع المهيب الذي حظي به وما قيل بحقه على المستوى الرسمي والشعبي ومن محبيه وخصومه ممن واكبوا صولاته وجولاته السياسية على مدى أربعين سنة بعدما أزاح ستار الموت رواسب الخلاف بينه وبين الجميع.

Ad

والعامل المشترك بين مواقف مؤيدي المرحوم الربعي ومخالفيه، محبيه ومبغضيه، مواليه ومعارضيه كان بلا شك خطه الفكري ونهجه السياسي وتطبيقات ذلك على المسرح الوطني، ولم يسلم الدكتور الربعي من جراء ذلك من تهم معلبة بلغت حد التخوين والتآمر على الدولة وفرض الأفكار الهدامة المستوردة من الخارج لتقويض نظام الحكم!! ولكنه لم يأبه بذلك كله وتمسك بما آمن به من فكر سياسي ونجح ليس فقط في فرضه على أرض الواقع، بل تبنيه كجزء لا يتجزأ من الحياة الديموقراطية والمرتكزات الدستورية.

وعلى الرغم من المساحات المشتركة من جهة ونقاط الخلاف مهما بلغت مع الفكر السياسي للمرحوم الربعي من جهة أخرى، فإن ما نجح فيه الدكتور وزملاؤه من مختلف المشارب السياسية الأخرى هو تجسيد مبدأ التعددية والمنافسة السياسية المشروعة التي كان لها الأثر الكبير في إثراء التجربة الديموقراطية الكويتية، وبين تشييع الفقيد ومجلس عزائه كيف التقت المتناقضات السياسية كلها من قوى وطنية وتيارات شعبية وشخصيات عامة في وداع هذا الرجل، واعتبر ابناً للكويت طوي في آخر المطاف في ثراها.

ولعل في وفاة الربعي عبرة أخرى جاءت في توقيتها المناسب والبلد يشهد حالة من التوتر وحبس الأنفاس والهيجان الإعلامي المنظم لضرب الوحدة الوطنية وبث روح الفرقة على أخطر وتر، وهو الفتنة المذهبية والنفخ في بالونات التخوين والترويج لأسطوانة الطابور الخامس المشروخة وبتغيير واحد في المشهد هو استبدال الشخصيات الوطنية المستهدفة من أجل تسديد الفواتير السياسية.

فإذا كانت عقلية الستينيات السياسية مبررة في ذلك الوقت بسبب بدايات نشأة الدولة وعودها الغض، فإن تلك العقلية التي تنظر بعين الشك والريبة لولاء أبناء هذا البلد لا تعكس النضج السياسي لتجربة نصف قرن سادت خلالها المؤسسات الدستورية ولم تزحزح وطنية الكويتيين خلالها حتى كارثة الاحتلال الصدامي، فأبناء البلد، ومهما كانت الأخطاء التي قد يرتكبونها في نظر بعضهم بعضاً بسبب التباينات السياسية والاختلافات الفكرية والاجتهادات، هم في نهاية المطاف أبباء هذا البلد يحكمهم القانون نفسه وتملى عليهم الواجبات والمسؤوليات نفسيهما. وما عدا ذلك من محاولات يائسة لتجريد الولاء والإخلاص للوطن، سخافات وترهات تنم عن أمراض الذات وعقد باطنية مهما استثارتها العواطف ومحاولات التهييج، إلا أن مردها إلى طبيعتها في نهاية الأمر. ولكن من المؤسف أن ننتظر لحظات الموت والفراق حتى نشهد لبعضنا بعضاً بالوطنية وحب الكويت كما فعل الكثيرون مع المرحوم الدكتور أحمد الربعي رحمه الله!