يحضرني تعليق لأحد القراء على قاص ٍمصري شاب امتلأت روايته بالابتذال الجنسي والتطاول على الذات الإلهية، حيث تساءل: هل كان بمقدور هذا الروائي أن يوجه الكلمات التي تضمنها نصه بحق الله، سبحانه وتعالى، إلى وزير الداخلية مثلاً؟... والإجابة بالطبع، لا. يوجد فرق كبير بين الحرية والانفلات، وفرق جوهري بين الإبداع والفوضى، فالإبداع يعمل على تغيير الواقع المُعاش إلى الأفضل، والفوضى الفكرية تشد الناس إلى الخلف. وهناك فارق أيضاً بين البحث العلمي المنهجي وبعض الكتابات الارتجالية التي يتوسل أصحابها بالتابوهات المحرمة في حياتنا مثل الدين والجنس والسياسة، طلباً لشهرة غير مستحقة، ورغبة في إحداث جعجعة من دون أن يكون هناك طحن، وهي كتابات تثير حنق المؤسسات الدينية والفقهاء المتطرفين فينهضون لمواجهتها، بالمصادرة والملاحقة والتشويه والتكفير.
وفي ظل تمسك كل طرف من هذين الطرفين بما يراه، من دون حوار أو انفتاح وتسامح مع الطرف الآخر، فلن ينقشع الضباب، الذي يخيم على حياتنا الفكرية والإبداعية العربية. فالذين يقيسون كل منتج فكري على ما لديهم من تصورات دينية سيجدون دائما ما يبرر بعض مواقفهم المتشددة حيال ما يستجد من أفكار، والذين يكرسون حياتهم للإبداع والتفكير سيعتقدون دائما أنهم أحرار في تصوراتهم وآرائهم، وأن هذا هو الطريق الوحيد نحو التقدم.
وللحقيقة فإن هناك موجة تسري في الوسط الأدبي العربي تسمى «التحرر من القيود» في لحظة إبداع النص، سواء تلك المرتبطة بالضوابط التي يفرضها الدين أو الأعراف التي يتمسك بها المجتمع أو الكوابح السياسية العديدة، وهذه الموجة، إن كانت في جانب منها تمثل تقليداً أعمى لبعض التيارات في الغرب، فإن هناك أعذاراً كثيرة قد تبيح سريانها واستمرارها. فالأجواء الخانقة للكتابة في العالم العربي جعلت الطلب على الحرية يزداد، ولأن هناك قوة ملموسة بيدها أدوات البطش مثل السلطة السياسية، فإن هذا الطلب تتم إزاحته من مجاله الرئيسي وهو السياسة إلى مجال الأخلاق والقيم الذي يرتبط بقوة غيبية، أو مثل لا يجلب تحديها أو الخروج عليها ضرراً يماثل أو يكافئ ذلك الذي يترتب على النزعة إلى الحرية السياسية.
هنا يحضرني تعليق لأحد القراء على قاص مصري شاب امتلأت روايته بالابتذال الجنسي والتطاول على الذات الإلهية، حيث تساءل: هل كان بمقدور هذا الروائي أن يوجه الكلمات التي تضمنها نصه بحق الله، سبحانه وتعالى، إلى وزير الداخلية مثلاً؟... والإجابة بالطبع، لا.
وهذا النوع من الكتابة يظلم الحرية حين ينزلق بها إلى تفلت، ويظلم من يناضلون من أجل تحقق هذه القيمة الإنسانية العظيمة في واقعنا المعاصر، حين يحصرها في مشكلات جنسية ذاتية، تصل إلى حد الشذوذ. وهذا النوع المتفلت من الكتابة لا يعدو كونه سهاماً تقذف ليس في معركة الحرية بل ضدها، لأن هناك مبدأً أساسياً في الحرية، كما ذكرنا سابقا، وهو أن «حرية الشخص تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين»، ومن ثم يصبح إيذاء الناس في معتقداتهم، بالتهكم عليها، أو في قيمهم الخلقية، بالإسهاب في الحديث عن الشذوذ الجنسي، هو من قبيل الاعتداء على الحريات العامة. فالاعتراف بمشكلات اجتماعية، حتى تلك التي تحاط بعشرات الخطوط الحمراء، يمكن أن يتم بصورة لائقة لا تؤذي مشاعر ولا تجرح ذائقة. وهنا يتحدث النقاد عن الفرق بين الكتابة الجنسية المقصودة لذاتها، والتي لا تخرج عن دائرة الأدب الرخيص، والعلاقات الجنسية الموظفة في سياقات أكبر من أجل تحصيل رؤية أو معرفة أو عظة ما، أو لفت الانتباه مثلاً من خلال النص الروائي إلى علاقة الفقر بانتشار العلاقات الجنسية المحرمة، كما فعل يوسف إدريس، أو على العكس من ذلك تماماً، كما فعل إحسان عبد القدوس في فضحه للطبقة الأرستقراطية.
وللخروج من هذا المأزق، لا بد أن يعرف كل طرف حدوده، فلا يتحجر المتدينون بما يؤدي إلى تكلس وشلل التفكير وموته، ولا يتفلت المفكرون والمبدعون بأشكال من التجاوز والاعتداء على العقيدة بما يجرح مشاعر الملايين من المتدينين. وهذا الأمر يتحقق حين نفهم جميعاً المقاصد العامة للدين، وفي أولها أنه، أي الدين، يكون لمصلحة الناس، وليس العكس، وأن ندرك السياق الأوسع للإبداع، وفي مستهلها أنه عملية لا تدور في فراغ إنما تنبع من ظروف معينة، وتسعى إلى تحقيق أهداف محددة، حتى لو لم يكن منتجها يقصد ذلك صراحة. وفي كل الأحوال من المهم أن يدرك الطرفان أن الفكر لا يواجه إلا بفكر مثله، وليس بدوائر قضائية أو إشهار السلاح، ناهيك عن المصادرة والمطاردة والنبذ.
* كاتب وباحث مصري