زمن البلطجة

نشر في 30-10-2007
آخر تحديث 30-10-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

صار للبلطجية دور ملموس في الممارسات السياسية الطبيعية، إذ شاع في السنوات الأخيرة استخدامهم في الانتخابات على نطاق واسع، وإسناد وظائف محددة إليهم، من قبيل التضييق على أنصار المنافسين وتخويفهم، ومنعهم الوصول إلى صناديق الاقتراع، أو إجبار الناس على التصويت لمصلحة مرشح معين.

تنطوي البلطجة على قدر هائل من الإكراه المادي والمعنوي الذي يرمي إلى إخضاع شخص أو جماعة لإرادة قوة باطشة غاشمة، وإجباره على اتخاذ قرار أو إتيان سلوك ينافي رغبته، وليس لهذا الفعل القسري القائم على البغي والطغيان والتنكيل بالآخرين، صورة واحدة أو شكل نمطي، إنما تتعدد صوره وأشكاله، وتتفاوت أحجامها، من ظرف إلى آخر، ومن موقف إلى غيره.

ويعود جذر كلمة «بلطجي» التي شاعت في المقالات والأدبيات السياسية والقانونية العربية على نطاق واسع إلى أصل تركي، وهو حاصل جمع مقطعين لكلمة «بلطة» وهي آلة حادة قاطعة و«جي» ومعناها «حامل»، مما يبرهن على أن الكلمة تعني «حامل البلطة». وفي أيام الإمبراطورية العثمانية كان حاملو البلط «البلطجية» يشكلون فصيلاً عسكرياً، يناط به السير أمام قوات المشاة، لتمهيد طريقها إلى دخول القرى والبلدات والمدن، وسيطرتها على الأرض، وكان هؤلاء يقومون بقطع الأشجار والنخيل الذي يعترض تقدّم هذه القوات، أو عمل فتحات وهدم أجزاء من جدران الحصون والقلاع. وظل هذا الفصيل العسكري قائماً حتى أيام محمد علي باشا، الذي حكم مصر في الفترة من 1805 إلى 1848.

ووقتها لم يكن اسم أو وظيفة «بلطجي» يحملان أي شيء أو أي معنى منبوذٍ أو مستهجنٍ، بدليل أن الوالي العثماني على مصر في الفترة من 1752 إلى 1755 كان اسمه «بلطة جي» أو «بلطجي»، لكن هذا الاسم صار مصطلحاً كريهاً بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، إذ صار البلطجي مجرماً في نظر المجتمع والقانون، وتراكمت هذه الصورة السلبية والمقيتة حتى وجدت الحكومة المصرية نفسها تسن قانوناً لـ«البلطجة» وتضمه إلى قانون العقوبات، لكنها لم تعرضه على البرلمان، ورفضت المحكمة الدستورية العليا نصه، ثم عادت الحكومة وضمنت قانوناً لـ«مكافحة الإرهاب» بنوداً تسدّ الفراغ التشريعي لمكافحة البلطجة.

وقد صار للبلطجية دور ملموس في الممارسات السياسية الطبيعية، إذ شاع في السنوات الأخيرة استخدامهم في الانتخابات على نطاق واسع، وإسناد وظائف محددة إليهم، من قبيل التضييق على أنصار المنافسين وتخويفهم، ومنعهم الوصول إلى صناديق الاقتراع، أو إجبار الناس على التصويت لمصلحة مرشح معين، وحماية بعض المرشحين من مُنازلِيهم، وفرض هيبتهم وسطوتهم على أهل الدائرة الانتخابية. وفي ظل هذا الوضع المغلوط صارت «البلطجة» مهنة لبعض المنحرفين والجانحين والمجرمين والخارجين على الأعراف والتقاليد والقوانين، وأصبحت تخضع لظروف السوق وأحواله، فيزيد الطلب على البلطجية أيام الانتخابات العامة، ويقل في غير موسمها.

كما يستعين بعض رجال الأعمال وكبار الملاك بالبلطجية لتخليص حقوق مؤجلة، أو السطو على حقوق الغير. وشاع الأمر إلى درجة أن كثيراً من الناس، حتى من بين البسطاء والمستورين، يلجأون أحيانا إلى الاستعانة بهؤلاء للغرض نفسه، في ظل بطء التقاضي، وغياب سلطة القانون، وعدم الثقة في العدالة، وانشغال جهاز الأمن بحماية كرسي السلطة على حساب الأمن الاجتماعي.

وهذا السلوك المشين ليس حديثاً أو طارئاً، بل له تاريخ في العالم بأسره، فطالما سعت قوى الاستبداد إلى الالتفاف على التطور الديموقراطي من خلال حشد البلطجية وحاملي الهراوات والسكاكين وتكتيلهم لتفرقة صفوف المشاركين في الحملات الانتخابية، وفض إضرابات العمال، وقمع احتجاجات منظمات المجتمع المدني والتجمعات الحقوقية. وهنا تطل بقوة «مافيات آل كابوني» في الولايات المتحدة وبلطجية «إس إس» في ألمانيا النازية و«الفلانج» في أسبانيا، وأصحاب «القمصان السود» في إيطاليا الفاشية.

ولم تقف البلطجة عند هذا الحد المرتبط بالأفراد والجماعات السياسية داخل الدول، بل وصلت إلى النظام الدولي برمته، فأصبح العرب المحدثون يطلقون على أعمال إسرائيل وبعض أعمال الولايات المتحدة الأميركية «بلطجة» بسبب الإفراط في استخدام القوة، وارتكاب قدر هائل من العنف، في ظل غياب أي مسوغ قانوني لمثل هذا السلوك، ومع عدم الاعتناء من قبل المعتدين أو ممارسي البلطجة بوجود مثل هذا المسوّغ، والإخلاص فقط لتحقيق المصلحة حتى لو على رقاب الناس ودمائهم، أو لفرض الهيبة، حتى لو ظهر المعتدي في صورة الدولة الباغية المتغطرسة المتجبرة.

ومثل هذا الوضع جعل البلطجة تخرج عن حدود الممارسات العنيفة والغليظة لعصابات أو أفراد، لتصبح ظاهرة عالمية واسعة، تمتد إلى جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يحدو بعدد من السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين وقادة الدول ليستعملوا كلمة «بلطجة» في وصف كثير من الممارسات القمعية لبعض الدول. وقد التقط الإعلاميون العرب الخيط ففاضوا في وضع عناوين من قبيل «بلطجة أميركية في مياه الأطلنطي» و«البلطجة الأميركية تطول أفغانستان» و«دولة البلطجة» و«نواب البلطجة» و«زمن البلطجة» و«فكر البلطجة»... والبقية تأتي.

* كاتب وباحث مصري

back to top