مقابل التيار الإنكاري، هناك تيار إقصائي، فهو ينسب كل الفضائل الى العرب والمسلمين من دون أن يعترف بالتطور الحضاري والتراكم الثقافي والمعرفي الدولي، فلماذا الادعاء بأن «بضاعتنا رُدّت إلينا»؟! وكأنه لا توجد للآخرين أي مساهمات في الفكر الإنساني!

Ad

ما الذي يمكن أن يجمع «العبسي» وتنظيم «فتح الإسلام» و«الزرقاوي» و«بن لادن» و«تنظيمات القاعدة» ونظام طالبان والجماعات التكفيرية بالإسلام؟! وكيف السبيل للتمييز بين هذه المجموعات وبين جمهرة المسلمين؟!

أثمة علاقة بين تصنيف هذه المجموعات وموقفها العدائي من الحداثة؟ وإذا كان «التراث» هو المشترك الذي تزعم جهات مختلفة أنها تعتمده، فكيف يمكن أن نقرأ التراث؟

لعل الكثير من المصنّفات الحديثة في الشرق والغرب تحاول الاغتراف من التراث، وذلك لإقامة الدليل على التوافق والمواءمة بينه وبين الحضارة التي ينتمي اليها، وبينه وبين الثقافة التي يواصلها وبين الحقوق الانسانية، مثلما يتعاطى بذلك أصحاب الفلسفة البوذية والكونفوشيوسية واليونانية والهندوسية والصينية، وكذلك يفعل البريطانيون عندما يتمسكون بريادة

«الماغناغارتا» – العهد العظيم، والفرنسيون حين يعتبرون الثورة الفرنسية تمثل المقاربة الحضارية لانطلاق فكرة حقوق الإنسان، والأميركيون الذين يضعون دستورهم بمكان المنبع، الذي رفد فكرة الحقوق والحريات، والروس الذين تغنّوا بفكرة «حق تقرير المصير»، التي مهدّت لها الثورة البلشفية، وغيرها من الأمم والشعوب، التي حاولت إنساب فكرة الحقوق الإنسانية اليها، سواءً لتأكيد أصالتها أو لإثبات معاصرتها.

أليس من حق العرب والمسلمين، أن يفخروا إذن برافدهم الثقافي والحضاري، خصوصاً مساهماتهم في ميادين الطب والهندسة والجبر والعلوم والفلك وغيرها؟ وهو الأمر الذي يستوجب منهم فحص وتدقيق تراثهم فيما يتعلق بفكرة الحقوق والحريات والعدل، ألم يقل عمر بن الخطاب (رض) قبل 1400 سنة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟» وهو ما نصّت عليه المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الانسان: « يولد جميع الناس أحراراً، متساوين في الكرامة والحقوق»...الخ.

لماذا إذن هناك من يرفض مشاركة الرافد العربي- الإسلامي في الحضارة الإنسانية؟ وإذا كانت الحجة المكررة أن فكرة حقوق الإنسان ترتدي «الثوب الغربي»، فإن أطيافها وأنساقها تعكس تفاعل وتداخل الحضارات والثقافات والمشترك الإنساني لبني البشر من دون تمييز.

ولعليّ لا أبالغ إذا قلت إن «حلف الفضول»، الذي شهدته الجاهلية في أواخر القرن السادس ميلادي، كان بمثابة أول تعاقد للدفاع عن حقوق الإنسان، وحين سُئِل عنه النبي محمد (ص) قال « ... لو أنني دعيتُ إلى مثله في الإسلام لأجبت».

مقابل التيار الإنكاري، هناك تيار إقصائي، فهو ينسب كل الفضائل الى العرب والمسلمين من دون أن يعترف بالتطور الحضاري والتراكم الثقافي والمعرفي الدولي، فلماذا الادعاء بأن «بضاعتنا رُدّت إلينا»؟! وكأنه لا توجد للآخرين أي مساهمات في الفكر الإنساني! أليس ثمة محاولة لإسقاط الرغبات الذاتية بطريقة إرادية على الواقع الزاخر والمتحرك وعلى التراكم والتطور الكبير الذي شهده الفكر العالمي؟

وبين الإنكار والاقصاء هناك اتجاه انتقائي أو توفيقي يحاول التوليف أحياناً بين متعارضات بانتقائية عجيبة، وكأن الحقوق الإنسانية يمكن إهمال بعضها أو الانتقاص منها. وقد جرت منذ الخمسينات محاولات للتوليف الانتقائي بين الفكر القومي والإسلام، وبين الفكر الاشتراكي والماركسي والإسلام، لكن هذه المحاولات مُنيت بالفشل.

« الاتجاه التغريبي» هو الاتجاه الرابع، الذي يبالغ في فكرة الحداثة بحيث يجعلها تزدري التراث، الذي هو محاولة عقيمة لا ينبغي التشبث به، وإذا أراد العرب والمسلمون السير في طريق التطور، فما عليهم إلاّ القبول والاقرار بالمفاهيم الحداثوية من دون زيادة أو نقصان!

لكن هل يوجد تيار عقلاني معتدل، ينظر إلى الإسلام كحضارة وهوية بمواكبته لروح العصر؟ بتواضع أقول إن مثل هذه الرؤية التجديدية لم تتبلور بعد، إلا على نحو محدود وضيق، ولم تتوافر الظروف والمستلزمات لدى الإسلاميين المتنورين ولدى التيار العلماني، لتجاوز ما هو سائد من ثقافة تقليدية، خصوصاً أن قوى التعصب والتطرف، الشديدة الغلو ما تزال تهيمن على «الإسلام السياسي»، وما يزال خطاب الجماعات التكفيرية- الإقصائية يمتاز بنبرة عالية الرنين، ضد الآخر، المخالف، الخصم والعدو، الذي يستحق الإلغاء، في حين أن نقد التيار العقلاني الوسطي للفكر التقليدي، ما زال يمتاز بالكثير من عناصر المداهنة والمجاملة.

ويقابل هذه الرؤية الإسلاموية الانغلاقية، التي تستخدم الإسلام ضد الإسلام، رؤية خاطئة واستئصالية في الغرب أيضاً، حين يتم التبشير بحتمية صدام الحضارات وصراع الثقافات.

الحداثة تفترض التعايش والتنوّع والحوار والاعتراف بالحقوق!

 

كاتب ومفكر عراقي