سيرة ذاتية : لطائر الصحراء - 11
بالصرماية!
كنت أكتب مقالتي على طاولة خالية في صالة التحرير، وفجأة دخل علينا تاجر كويتي له علاقة مباشرة بجريدة السياسة، فنهض محرر فلسطيني وقبّل أنفه ثم انحنى وقبّل يديه، وكان يرحب به أهلاً عمي أهلاً عمي وكان ثمة على باب الصالة الفنان الكاريكاتيري الرائع والفلسطيني (العظيم) ناجي العلي -يرحمه الله- يتأمل المشهد، وهو يقاطع ساقيه كعادته الدائمة ثم صرخ ناجي في المحرر الفلسطيني الذي قبّل يدي التاجر: (يا أخو الشليته)، الفلسطيني حرّ. ما خلق لكي يقبل الأيادي يا ابن الـ(…)، ثم خلع ناجي حذاءه وقذفه باتجاه المحرر المسكين، وبعد ذلك ضجت الصالة بالفصل بين المتخاصمين، أخذت ناجي العلي إلى مكتبه، وكانت عروق الرقبة منه ناتئة، وكأنها توشك على الانفجار، قلت له يا أبا خالد (الناس أجناس) فصرخ في وجهي، ولكن الفلسطيني عليه أن يكون فلسطينياً حقيقياً يحتفظ بكرامته مهما كان. هدأ ناجي ثم طلبت له فنجاناً من القهوة الثقيلة الطازجة، ثم تناول قلمه وراح يرسم لي (حنظلة وهو يقرأ مقالة المحرر الفلسطيني برجليه). قلت له يا ناجي إذا ما فعلت ذلك فأي جريدة تستقبلك؟ هدئ من روعك. نهض من كرسيه الخشبي ثم مزق اللوحة والتفت إليّ ثم قال: اسمع أيها البدوي: في هذا البلد كل شخص له عمّ، فما هو رأيك أن تصبح عمّاً لي وأصبح عماً لك. صار ناجي عمي وصرت عماً له طوال وجودنا في جريدة السياسة الغراء، وفي ذات ليلة «هتف» له سليمان الفهد وقال «يا ناجي ما رأيك في أن نلتقي عند «محمد باحسين» ثمّ هات لنا الصعلوك سليمان الفليح إن وجد؟!». ضحك ناجي طويلاً ثم قال: هو بين الأيادي، بعدها تناول السماعة محمد باحسين، وقال لي لقد اشتقنا إليك طويلاً فتعال إلى بيتي حيث ملتقى الشعراء والكتّاب والمثقفين، إن بيتي مفتوح للصعاليك والغرباء والعابرين. أتيت إلى بيت «با حسين»، وكان يضم في جلسته الرائعة مجموعة من الأصدقاء الرائعين مثل حمود الصقعبي، وعبد الرحمن الشايع، وصقر الرشود، ومحمد السريع، والشاعر الفلسطيني مازن شديد والكاتب المصري الكبير أمين العيوطي، وحسين العتيبي، بالإضافة إلى سليمان الفهد وناجي العلي، وكان بيت «باحسين» مفتوحاً للأصدقاء إذ «يهطل» الصعاليك في آخر الليل ويجدون المأكل والمنام أيضا،ً وذلك لأن «محمد باحسين» سليل أسرة كريمة عُرفت بالكرم وقد لقب جده بـ«معشي الشجر» إذ تقول الحكاية: إن جده الأول حينما كبر وأصابه الخرف كان قد تعود طوال حياته أنه ما ان يرى ركباً قادماً حتى نحر الذبائح له، وذات ليلة مغبرة لمح أشجار سدر فظنها ضيوفاً وأمر أهل بيته بنحر الذبائح فقالوا له: إن ذلك شجر وليس ركبا فقال «عشوا الشجر». أما أبو نبيل محمد با حسين حفيده، فقد كان نبيلاً بالفعل، لا يعرف الغضب ولا الكراهية ولا الزعل، فقد خلقه الله لدماثة الخلق والضحكة الدائمة، كلمته الأثيرة (يا باي)، وكنا نرى فيه نحن أصدقاءه الكتّاب، مرآة لنا إذ ينتقد أعمالنا بكل صراحة ووضوح. انضم الى الشلة في ما بعد المرحوم عدنان العتيقي، وهو مفكر عميق وكاتب رصين ووطنيٌ (للعظم)، كما كان ناجي فلسطينيناً (للعظم)، وقد ورث عدنان آنذاك عن جده مزارع من النخيل والأراضي والأملاك و«العبيد» فذهب إلى المملكة وأعتق العبيد وباع الأملاك، وقرر أن يتجول في بلاد الله الواسعة كبقية أصدقائه المقربين الذين كان يغدق عليهم المال، وقرر في لفتة ذكية منه أن يختبر صدق هؤلاء الأصدقاء فجمعهم ذات ليلة في مدينة لندن، وقال أيها الأصدقاء لم يبق لدي من المال شيء، وعلينا أن نعتمد على أنفسنا في هذه الديار الغريبة دعونا نعمل لنعيش أو نحصّل ثمن التذاكر التي تعيدنا الى الكويت، فشمّر عن ساعديه وعمل جرسوناً في مطعم، بينما أصدقاؤه أخذوا ينسحبون من حوله الواحد تلو الآخر، ولم يتبق لديه سوى صديق يمني اسمه أحمد، ظل يشاطره العمل ويتنقلان من بلد إلى بلد من حصلية عملهما كجرسونين ثم قال له: اسمع يا أحمد لقد جربت الأصدقاء وادعيت الإفلاس وهذا مجرد اختبار، ولكن منذ اليوم ستكون أنت أخي وصديقي المخلص، وسأقتسم معك هذه الثروة حتى يغيبنا الثرى. وبالطبع كانت تجربة عدنان تجربة ثرية في الحياة، وقد وعدنا بأن يكتبها ذات يوم، ولكن القدر لم يمهله طويلاً إذ انتقل إلى رحمة الله وهو في قمة العطاء.