ما أدهشني وأدهش الكثير من المراقبين الذين تابعوا موضوع التطوع في الخدمة المدنية، هو الإقبال الكبير من قبل عرب 1948 على هذه الخدمة التطوعية في إسرائيل، وكأنهم يُقبلون على الخدمة المدنية في أوطانهم، التي تحكمها أنظمة وطنية فلسطينية.هناك قانون في إسرائيل، يمنع عرب إسرائيل الذين عاشوا في فلسطين بعد 1948 من الانخراط في الجيش، خوفاً من عدم ولائهم للدولة، وخشية من تسرّب أسرار الجيش الإسرائيلي إلى القيادات الفلسطينية، ولم يُستثنَ من هذا القرار غير العرب الدروز فقط، ولعلنا نذكر الحملة الإعلامية والشعبية التي قادها الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في عام 2001، لمناشدة دروز إسرائيل عدم الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي، وقال وقتئذٍ: «سنتصل بالفعاليات الوطنية في فلسطين لتوسيع خارطة الرفض الدرزي للتجنيد، وسنطالب بعقد مؤتمر قومي عربي عام لتعميق هذا المفهوم، وذلك كمساهمة أساسية مع إخواننا الفلسطينيين للتضامن معهم». ولكن دروز إسرائيل لم يمتثلوا لكلام الزعيم جنبلاط، وبقوا على قرارهم بالانتساب إلى الجيش الإسرائيلي. وكان لهم مبرراتهم المختلفة، التي لا مجال لذكرها في هذا المقال المحدود المساحة، وقد لقيت حملة جنبلاط ردود فعل سلبية مستنكرة من الدروز المتعاونين مع إسرائيل، واعتُبر هذا الشأن شأناً داخلياً خاصاً لا علاقة لجنبلاط به. فأعلن الوزير الدرزي صالح طريف في حكومة شارون، في ذلك الوقت، أن الدروز سيواصلون الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، واتهم زعيم حزب التجمع الوطني الديموقراطي عزمي بشارة، بتحريك موضوع مؤتمر رابطة «المعروفيين» الدروز «لأهداف سياسية». بينما انتقد أسعد عرايدة القيادي الدرزي، ما وصفه بتدخل جنبلاط في شؤون الدروز في إسرائيل، مشدداً على ضرورة استمرار الدروز في الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي «كواجب يفرضه الانتماء إلى دولة إسرائيل». («الشرق الأوسط»، 20/8/2001)
عرب 1948 والانتماء إلى إسرائيل
وفي الشهر الماضي، نقلت لنا الأخبار، أن باحثين من جامعة حيفا، هما البروفيسور سامي سموحة، والدكتور نهاد علي، أجريا استطلاعاً للرأي حول القضية الملتهبة التي شغلت الوسط العربي في إسرائيل في الأشهر الأخيرة، وهي قضية خدمة العرب المدنية في إسرائيل، والتي يمكن أن تقود في المستقبل القريب إلى السماح لعرب 1948 بالخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، حيث يؤكد البند الثالث من قرار إنشاء مديرية الخدمة المدنية الإسرائيلية، أن المشاركة في الخدمة المدنية الوطنية، ستكون تطوعية، وتقوم على رغبة الفرد في توظيف أوقاته وقدراته في خدمة المجتمع، ولكن لجنة المتابعة العربية العليا، وممثلي القوى السياسية المختلفة، اتخذوا موقفاً ضد الخدمة المدنية خوفاً من أن تكون باباً في المستقبل للخدمة العسكرية، مادام قد فُتح الباب لعرب 1948 للخدمة المدنية، وهذا ما جرى للدروز في إسرائيل.
فاليوم الخدمة المدنية التطوعية، وغداً الخدمة العسكرية الإلزامية.
إقبال كبير من عرب 1948 على الخدمة المدنية
ما أدهشني وأدهش الكثير من المراقبين الذين تابعوا هذا الموضوع، الإقبال الكبير من قبل عرب 1948 على الخدمة المدنية التطوعية في إسرائيل، وكأنهم يُقبلون على الخدمة المدنية في أوطانهم، التي تحكمها أنظمة وطنية فلسطينية.
فقد قالت نتائج الاستطلاع المذكور إن %73.6 من الجمهور العربي يؤيد الخدمة المدنية، رغم أنهم لا يعرفون الكثير عن تفاصيل المشروع، ورغم أجواء عداء الشخصيات السياسية العربية للمشروع. وقد شمل الاستطلاع 910 أشخاص من الوسط العربي في إسرائيل من القسم الأول وهي الفئات السكانية العامة، والقسم الثاني وهو أهالي من لهم أبناء في جيل الخدمة المدنية، والقسم الثالث من الاستطلاع شمل فئة من الشبان والفتيان ومن هم في جيل الخدمة. وكانت صيغة السؤال كالتالي: هل توافق على أداء الخدمة المدنية مقابل الحصول على الحقوق التي يتمتع بها الجنود الذين يؤدون الخدمة العسكرية؟
وكانت نسبة المؤيدين من الفئات العامة %73.6 وبين الأهالي %72.5 وبين الشباب أنفسهم %65.
وقد لاحظ المراقبون أن الأحزاب العربية والزعامات العربية «عزمي بشارة مثالاً لا حصراً» بنت معارضتها واحتجاجها على هذا الاستطلاع، باعتبار أن الخدمة المدنية إلزامية وليست تطوعية، في حين أن هذه الخدمة تطوعية وليست إلزامية.
ماذا تعني هذه النتائج؟
الملفت للنظر في هذا الاستطلاع –كما قلنا قبل قليل- هو الإقبال غير المتوقع على أداء الخدمة المدنية التطوعية من قبل عرب 1948 مما أدهش مديرية الخدمة المدنية الإسرائيلية نفسها، حيث إن عدد المتطوعين يفوق قدرة هذه المديرية على استيعابهم، لعدم وجود ميزانيات كافية، ولأن الخدمة في أساسها تطوعية منظمة، مقابل أجر ومنح وهبات مختلفة تساعد الشاب على شق طريقهم التعليمي أو المهني، وأن هناك آلاف الشباب «يقدر عدد المسجلين للتطوع بين 4000 و5000 شاب وفتاة» المستعدين للتطوع فوراً من مختلف أنحاء البلاد، وأن عدد المتطوعين عام 2007 قد فاق أكثر من ضعف عدد الأماكن الموجودة لدى مديرية الخدمة المدنية «المفروض 250 متطوعاً فقط» مما اقتضى التوجه إلى الوزارة للحصول على زيادة عدد الأماكن والميزانيات لاستيعاب المزيد من الشباب والفتيات العرب، فوصل عدد المتطوعين إلى 900 متطوع. وهو رقم لم تستطع الأحزاب العربية في إسرائيل، أن تجمعه في اجتماعها القطري ضد الخدمة المدنية في حيفا، تحت شعار «أنا مش خادم».
فماذا يعني هذا الاستطلاع الخطير على مستقبل القضية الفلسطينية، إنه يعني مؤشرات كثيرة ومختلفة، منها:
1 - يعني أن عرب 1948 داخل إسرائيل قد فقدوا الأمل في قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967، أو على أي حدود أخرى، وأنهم يسعون إلى الاندماج في المجتمع الإسرائيلي من خلال هذا الإقبال غير المتوقع على الخدمة المدنية الإسرائيلية التطوعية، لكي يثبتوا للإسرائيليين بأنهم مخلصون لدولة إسرائيل كاليهود تماماً.
2 - ويبدو أن الخلاف الحاد بين السلطة الفلسطينية العلمانية في رام الله وحركة «حماس» الدينية السياسية الذي وصل إلى حد سفك دماء بعضهم بعضاً، قد قطع الأمل حتى في قيام الدولة الفلسطينية المرهونة بموافقة إسرائيل وأميركا اللتين تعاديهما حركة «حماس»، وترفض الحوار معهما.
3 - ويبدو أن الأجيال الفلسطينية التي ولدت في إسرائيل بعد 1948 قد نشأت في ظل الديموقراطية الإسرائيلية -بغض النظر عن ملاحظاتنا السلبية الكثيرة عنها– كما نشأت في مجتمع منظم ومختلف عن المجتمعات العربية، وبغض النظر عن كراهية الكثيرين منا لهذا المجتمع. وأصبحت هذه الأجيال جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي، كما أصبح حالهم كحال ملايين العرب المهاجرين في أوروبا وأميركا، ولم يعد أمامهم إلا الاندماج الكامل في هذا المجتمع، وكانت أولى خطوات هذا الاندماج هي هذا الإقبال المنقطع النظير على الخدمة المدنية التطوعية التي أدهشت وأربكت مديرية الخدمة المدنية الإسرائيلية نفسها.
4 - من الملاحظ أن الإعلام والرأي العام العربيين لم يُعيرا أي اهتمام لنتائج هذا الاستطلاع، بعد أن ضجرا من القضية الفلسطينية وتعقيداتها طيلة أكثر من قرن، ولم يدرك الإعلام العربي بعد، أن هذا الاستطلاع ونتائجه هما الخطوة الأولى نحو التحاق الشابات والشباب العرب بالجيش الإسرائيلي غداً.
* كاتب أردني