أن تصيبوا قوماً بجهالة

نشر في 07-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 07-10-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

أنت مطالَب ليس فقط بالتثبت من صحة ما ورد إليك، لكن أيضاً من معرفة مصدره، ومن ثم وضع الخطاب محل الفحص في سياقة الأشمل، ما يمكنك من تقصي أبعاده والإحاطة بتفاصيله وأغراضه.

ربما ليس أنفع للإعلامي، في ممارسته عمله، من الاهتداء بقوله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»؛ ففي هذا القول الكريم ما يرسي القاعدة الأهم بين قواعد العمل الإعلامي على مر الأزمنة؛ ألا وهي قاعدة التثبت قبل نقل الخبر، بما تنطوي عليه من فرز موضوعي لما نسمعه، مهما بدا صادقاً، ومن توثق من صحته قبل أن نذيعه على الناس.

فالإعلامي عادة يحصل على الأخبار الكاذب منها والصادق؛ فإن لم يتثبت منها، وأذاعها من دون توثق، فقد كذب، والكذب هو الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه، وإن لم يكن متعمداً، والتعمد هو فقط شرط الإثم، لكن صفة الكذب ستلحق بمن نقل ما لم يتم التثبت من صحته، وهنا يكون نقل الكفر بمنزلة الكفر ذاته.

وما ورد عن الرسول الكريم في هذا الصدد ليس سوى جانب من فلسفة إسلامية متكاملة شديدة الاتساق، تضع دليلاً مرشداً للمسلمين، أحسبه أكثر عمقاً ووفاءً من أعظم الأدلة التي ترسي قواعد العمل الإعلامي اليوم. وهو يأتي في تفصيل وإيضاح مبدعين، بحيث يقف المرء أمامه مذهولاً؛ فكيف انتمينا إلى هذا الدين، ونظرنا إلى تلك النصوص، ثم لم نتعلم منها شيئاً، وإذ نحن نقتات على معان ٍوتوجيهات، معظمها وارد، وليست في رفعة ما نملك ولا متانة بنيانه.

وفي محكم التنزيل يقول المولى عز وجل «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»، وهي الآية التي تحضنا على التبين من صحة ما يصلنا من أخبار؛ إذ إن اندفاعنا نحو تصديق كل ما يرد علينا قد يقودنا إلى ارتكاب الأخطاء التي ستوردنا موارد الندم.

وعلى هامش المعنى ذاته يقول محيي الدين بن عربي «جميع ما يرد عليك وأنت تجهل مصدره لا تعول عليه». والمغزى واضح؛ فأنت مطالب ليس فقط بالتثبت من صحة ما ورد إليك، ولكن أيضاً من معرفة مصدره، ومن ثم وضع الخطاب محل الفحص في سياقة الأشمل، ما يمكنك من تقصي أبعاده والإحاطة بتفاصيله وأغراضه.

فإن أنت أذعت على الناس من خلال منبرك ما لم تتوثق منه وبقي محل الظن تكون من الخرّاصين؛ وفي هذا قال عز وجل «إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون»، كما قال جلّ وعلا: «وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون».

واتباع الظن هو اتباع الشك والعلم غير المتيقن منه، والظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم، والخرص هو التكلم عن ظن كاذب وحسبان باطل وليس عن يقين صادق، والخراصون هم الكذابون المرتابون أهل الظنون الكاذبة والحسبان الباطل، الذين يتقولون الباطل ظنا بغير يقين علم ولا برهان واضح.

واليوم تعمل وسائل الإعلام الأكثر تقدماً في العالم وفق قواعد إرشادية تحكم غرف التحرير وتؤطر عملها؛ والقاعدة الأهم بين تلك القواعد هي تلك المتعلقة بالتثبت، والتي تسمى اختصاراً قاعدة المصدرين، أي التثبت من الخبر محل الشك من مصدرين مختلفين ليسا على صلة مباشرة.

والغاية هنا هي البرهان على صدقية ودلالة ما ننقله الى الناس، وفي هذا تقول الآية الكريمة «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»؛ والبرهان هو الدليل المقطوع به؛ فالدليل من حيث هو دليل لا يكون إلا قطعياً، ولم يستعمله القرآن إلا بمعنى القطعي.

وفي الآية الكريمة «ما لهم به من علم إلا اتباع الظن» ما يشير إلى هؤلاء الذين لا يملكون براهين ولا أدلة فيما يتصدون لمعرفته، فيركنون خاسرين إلى الظن الذي لا يجوز الاعتقاد به. والثابت أنه محرم على المسلم أن يعتقد ما كان دليله ظنياً، وفي هذا أروع ما يمكن تقديمه من نصيحة لهؤلاء الذين يسودون الصفحات ويحشون الأثير بالظن والتجديف وتداول الشائعات والرمي بالباطل.

وفي قوله عز وجل «فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون»، ما يفيد أن التثبت بطلب البرهان هو خير ما نعمل لاتباع الحق والخلاص من الضلال.

فماذا لو كان الإعلامي يعمل في ظروف استثنائية كما يحدث في معظم بلداننا العربية؛ وكيف له أن يهتدي بتلك المعاني النبيلة والقواميس المحيطة في بيئات مخنوقة وأجواء استهداف وتربص وعداء؟ يقول المولى عز وجل «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا»؛ وهو الأمر الذي يوضح لنا أن التبين يجب أن يسبق أفعالنا كلها حتى لو كانت ضمن قتال محتدم.

كثيرة هي مواثيق الشرف ومدونات السلوك وقواعد العمل المؤسسية التي تسعى إلى ضبط العمل الإعلامي وتقويم مساره، وهي مدونات معظمها جدير بالتفهم والاعتبار على تفاوتها في إدراك ما رمت إليه، أما ما ينفع الإعلاميين في المقام الأول، ويمكث في صحفهم وأثيرهم فهو التعرف إلى المعاني السابقة كلها، وتفكرها وتدبرها من حيث هي إشارات ربانية تستغرق الكون بانشغالاته التي لا تنتهي ثم تأتي لتنبههم وتعلمهم قبل أن تصدر المواثيق وتوضع الأدلة وتنشأ الأكاديميات.

* كاتب مصري

back to top