Ad

«العلمانية الجزئية» هي تصور يقوم على أساس قاعدة أن «فصل الدين عن السلطة ضرورة، وفصله عن الحياة جريمة». وهذا معناه ألا تحاول الكنائس تأدية دور سياسي، فهذا خارج اختصاصها وفوق طاقتها، ولا تستمر «الجماعات والتنظيمات الإسلامية» والمساجد والحسينيات في «تسييس الدين». والبديل لهذا هو «تديين السياسة» أي منحها إطاراً أخلاقيا.

يعيش عالمنا العربي أزمة دائمة بفعل الفشل في تحقيق الاندماج الوطني بين الطوائف والشرائح والفئات كافة، التي تشكل كل دولة من دوله. وتزداد وطأة هذه الأزمة في اللحظة الراهنة، وقد تضع بعض الدول العربية على أبواب «الفوضى الهدامة». وحتى يمكن تلافي هذه المشكلة المزمنة لابد من توافر حزمة من المبادئ الأساسية الراسخة، التي تعض عليها «الجماعة الوطنية» بالنواجذ، قبل أن تسعى في بناء أسس للتعايش، أو تطبق ما تعارف عليه الناس من شروط، إما بحكم التجربة، أو بفعل إعمال العقل. ومن هذه الأمور:

1 - الفصل بين «الجماعة السياسية» و«الجماعة الدينية»: وهذا شرط أساسي لتحقق «المواطنة» في مجتمع ما، ومن ثم ترسيخ جذر أساسي للتعايش. فمواطنو الدولة يجب أن يكونوا «جماعة سياسية» واحدة و«جماعات دينية متعددة»، وهذا معناه أن تكون الحقوق والواجبات متساوية في كل ما ترتبه السياسة، بمختلف درجاتها، والشراكة متساوية في «الغنم» و«الغرم». أما بالنسبة للدين، فيتم التعامل معه على أساس القاعدة -الذهبية التي تقول «الدين للديان»، أو «الدين لله والوطن للجميع».

2- الخروج من سجن التاريخ: فالسجال الدائر بين طوائف وشرائح أي بلد يجب ألا يحيل كثيراً إلى التاريخ، ويركز، بدلا من ذلك، على الحاضر المعيش. وهذا المنحى يرفع المسؤولية عمن يعيشون هنا والآن، عما جرى في القرون الغابرة، فلا يطيل فريق في الحديث عن اضطهاد لحق به على يد فريق آخر، ولا يفتش هؤلاء عما ارتكبه أجداد هؤلاء في حقهم. ورغم أن تاريخ بعض الدول العربية ممتلئ بالمواقف المشرقة والمشرفة لكثير من المختلفين حالياً، فإن الاكتفاء بها لا يفيد في الوقت الحاضر. وعلى النقيض يؤدي استدعاء المواقف المشينة من ذمة التاريخ إلى تأجيج الوضع الراهن.

3 - الاعتراف المتبادل بالمتجاوز: أي أن يقوم كل طرف بالاعتراف أن بعض المنتمين إليه متطرفون في تصوراتهم واعتقاداتهم، ينظرون إلى الآخرين على أنهم «خونة» أو «كفار» أو «منقوصو المواطنة» ويسعون إلى معالجة هذه المغالاة، وهذا القصور في الفهم.

وهذا الاعتراف لا ينتظم أبداً في محاولة كل طرف لإثناء الآخر عن معتقده أو أفكاره، بل يجب أن يكون بداية للبحث عن «التعايش الإيماني»، وتعزيز المشترك الأخلاقي الذي تزخر به الأديان.

4 - الفصل بين النص والممارسة: فالنصان القرآني والإنجيلي مثلا يحملان من القيم ما يكفي حال التمسك بها لبناء تعايش مشترك واحترام متبادل بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، ولا يجب أن يتحملا ما يفعله الطرفان ببعضهما بعضا، فهذا من قبيل السلوك البشري الذي يُعد انحرافا عن مقاصد الأديان وغاياتها. وبالتالي فإن الحاجة تصبح ماسة وملحة للرد على التأويلات الخاطئة للنصوص.

5 - العلمانية الجزئية: وهي التصور الذي يقوم على أساس قاعدة أن «فصل الدين عن السلطة ضرورة، وفصله عن الحياة جريمة». وهذا معناه ألا تحاول الكنائس تأدية دور سياسي، فهذا خارج اختصاصها وفوق طاقتها، ولا تستمر «الجماعات والتنظيمات الإسلامية» والمساجد والحسينيات في «تسييس الدين». والبديل لهذا هو «تديين السياسة» أي منحها إطاراً أخلاقيا، نحن بأشد الحاجة إليه لمواجهة الفساد والاستبداد. وهذه مسألة يجب أن تسن لها قوانين وتشرع لها شرائع وضعية.

6 - تغيير السياق العام: فكثير من المثقفين وأعضاء النخبة السياسية والاجتماعية في العالم العربي يرون أن حل مشكلة التعدد العرقي والمذهبي واللغوي، لن يتم، على الوجه الأكمل، إلا في إطار إصلاح سياسي شامل، تستقر فيه قواعد دولة مدنية ديموقراطية، تقوم على مبدأ «المواطنة» وتداول السلطة، وتفتح الباب أمام حرية التعبير، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية، وحقها في العمل بين الجماهير، وتعبئتهم خلف برامجها «السياسية»، بدلاً من تركهم يعودون إلى انتماءاتهم الأولية، ومنها الدين والعشائرية والوضع الجغرافي، لاستخدامها في المجال السياسي.

7 - الأرضية الوطنية: فأي مشكلة للتعايش بين الفئات الاجتماعية التي تشكل أي دولة يجب أن تحل على أرضية وطنية، وبأجندة محلية، ويشارك فيها وطنيون. فالاستقواء بالخارج، أو حرث الأرض أمام تدخل أجنبي، سيقود إلى نتائج غاية في الخطورة، سيتأثر بها الجميع. فلا الأجنبي بوسعه أن يحمي أحداً، ولنا في تجربة مسيحيي العراق بعد احتلاله عبرة وعظة، ولا الخارج من الممكن أن يضحي بمصالحه من أجل أحد، ومن يعتقد في غير ذلك واهم أو فيه خبل.

 

كاتب وباحث مصري