Ad

أفضت عوامل عدة من بينها العولمة الاقتصادية وإعادة النظر في مبدأ «السيادة» واستشراء التفكك الداخلي، إلى إضعاف دول، بعضها هش البنيان أصلاً، وتحويلها إلى مجرد سلطات، يتوقف دورها عند القسر ومزاولته وامتلاك أدواته وأسبابه، طالما أنها أضحت في حلّ، من الاضطلاع بمهامها كهيئة ناظمة تسهر على التوازنات الأساسية للمجتمع.

آن الأوان للعمل على ترميم الدولة وسيادتها حيثما وجدتا، وعلى ابتعاثهما حيثما تعذرتا أو لم تسعفهما ظروف تاريخية مما يمكّنهما من رؤية النور أو حالت دونهما موانع ثقافية وسوسيولوجية وسواها. ذلك ما يمكن استخلاصه من تجربة العقدين الماضيين، منذ نهاية الحرب الباردة، والعقد الأخير على نحو أخص، ذلك الذي يمكن القول إنه ذهب المذهب الأبعد في مجال الحطّ من شأن الدولة السيّدة الحديثة، تلك التي وضعت أسسها وأقرتها مبدأً اتفاقية «وستفاليا» في سنة 1648، ثم اعتُمدت نموذجاً كونياً بعد نزع الاستعمار وبلوغ الاستقلال في جنوب العالم أو خارج المجال الغربي.

منزعان أساسيان تضافرا على الدولة-الأمة، بعد الحرب الباردة، يعملان فيها تهويناً وإضعافاً، الأول من طبيعة موضوعية، أو «حتمية» إن أردنا استعادة مصطلح ولى زمانه، هو المتمثل في العولمة، التي أنهت ما يمكن وصفه بالاقتصاد الوطني، بأن أخضعته، قراراً وآليات، إلى مراتب عابرة للأوطان، وأوكلت أمره إلى فاعلين في حالة انفكاك من كل كيان سياسي بعينه، يصح ذلك حتى على الولايات المتحدة، إن نحن أخذنا، على سبيل المثال، بالتوصيف الذي قدمه الباحث كيرستوفر لاش، في كتاب صدر له سنة 1995 بعنوان «تمرد النُّخب وخيانة الديموقراطية»، بيّـن فيه كيف أن نخب اقتصاد العولمة، الفاعلين في ذلك المجال والدائرين في فلكهم من تكنوقراط الفكر والثقافة والإعلام والترفيه وما إليها، إنما أضحوا أكثر ارتباطاً بنظراء لهم من «جلدتهم» ومن مقامهم عبر العالم، منهم بواقعهم المحلي الذي باتوا يجهلونه تماماً، أو لا «يتعرفون» عليه إلا بواسطة الإحصاءات واستفتاءات الرأي وسوى ذلك من التمثّلات النظرية يتولى الكمبيوتر صياغتها.

أما المنزع الثاني فهو أكثر إرادية إن جازت العبارة، نجم عن استخلاصات توصلت إليها القوى المنتصرة في الحرب الباردة، والتي اعتبرت نصرها ذاك إيذاناً بحلول الديموقراطية على الصعيد الكوني، أو بـ«نهاية التاريخ» حسب تعبير شهير، ما زيّن لها وهْمَ الاضطلاع بمهمة رسالية، هي نشر الديموقراطية وإحلال مبادئها، وعلى رأسها الحقوق الإنسانية، في مرتبة التسامي على كل مبدأ سواها أو تشـــريــــع، لاغ ٍ لها إن دعت الحاجة، ولا سيما مبدأ سيادة الدول، ذلك الذي كف عن أن يكون إطلاقياً وأضحى نسبياً، مشروطاً بحسن التصرف في تلك السيادة، بحيث ما عادت تستوي حصانة لنظام من الأنظمة إذا ما سام مواطنيه أو بعضهم، إجحافا أو إبادة.

المقاربة سخيّة في ظاهرها، وربما مثلت من الناحية الفلسفية، عودة إلى فكرة «الحق الطبيعي»، التي تم التنظير لها منذ القديس توما الإكويني، بل منذ الفلاسفة الرواقيين حسب بعض الباحثين، وهي الفكرة القائمة على وجود ما يمكن وصفه بحقوق «أصلية» سابقة لكل قانون وضعي ومتعالية عليه، وهي الفكرة التي استحضرتها على سبيل المثال محكمة نورمبيرغ، لتسويغ مقاضاتها مسؤولين نازيين كانوا، في ما اقترفوه، ينفذون القوانين السارية في بلدهم، كما استحضرها القس مارتن لوثر كينغ، إبان خوضه معركة الحريات المدنية في الولايات المتحدة، لنزع الشرعية عن تمييز عنصري كانت تقره القوانين المعمول بها في ولايات الجنوب.

المقاربة إذن سخية، كما أشرنا، ولا تعوزها الأسانيد الفكرية، ولكن المشكلة في التطبيق، ذلك الذي كان صائباً في حالات وكارثياً في حالات أخرى. كان صائباً في يوغسلافيا السابقة، عندما تم اللجوء إلى مبدأ «الحق في التدخل» لكف يد الطاغية الصربي سلوبودان ميلوسيفتش عن إبادة فئات من شعبه، تلك التي تدين بالإسلام، وكان كارثياً في الحالة العراقية على سبيل المثال، ليس لأن صدام حسين ما كان يستحق مآل نظيره الصربي، بل لأن التدخل ذاك تم على النحو الذي تم به، وهو معلوم، وخلَّف من الآثار ما خلّف، وهي معلومة أيضاً، ناهيك عن أنه لم يقنع أحداً بدوافعه الإنسانية أو الحقوقية.

الحالة الوحيدة التي تقدم مثالاً ناجحاً لتجاوز سيادة الدول، هي تلك التي جسدها الاتحاد الأوروبي، ذاك الذي اختارت دوله الأعضاء التضحية بعدد من مظاهر سيادتها متفاوت (التخلي عن صلاحية سك العملة وعن مراقبة الحدود...الخ) لفائدة هيئات ومؤسسات جامعة ومفارقة في الآن نفسه، يتساوى أمامها الجميع. لقد تم ذلك التخلي على نحو إرادي، أي سيادي في نهاية المطاف. ولكن الحالة تلك ظلت فريدة، وهي لفرادتها تلك تحديداً، تفضح موطن الخلل في المقاربة الأميركية، التي اعتمدت تجاوزاً لمبدأ السيادة قسرياً، يُبلغ بالقوة، ومنحته صفة استتباعية، استعمارية.

كان لكل ذلك، العولمة الاقتصادية معطوفة على إعادة النظر في مبدأ «السيادة» وعلى استشراء التفكك الداخلي، ديناميكيةً ذاتية في الغالب، أن أفضى إلى إضعاف دول بعضها هش البنيان أصلاً، أو في «أفضل الحالات»، إلى تحويلها إلى مجرد سلطات، يتوقف دورها عند القسر ومزاولته وامتلاك أدواته وأسبابه، طالما أنها أضحت في حلّ، تطبيقاً للنواميس الليبرالية الاقتصادية المغالية، من الاضطلاع بمهامها كهيئة ناظمة تسهر على التوازنات الأساسية للمجتمع، ترعاها وتمثل لها مناطاً، وتنهض بما لا قبل للسوق أن ينهض به بمفرده من صحة وتعليم وما إلى ذلك من الوظائف الأولى، والتي تتعلق بالإنسان في إنسانيته، أي قبل أن يكون منتجاً أو مستهلكاً، أي قبل أن تصبح السوق كنها له وهوية.

إذن فالتجربة، تجربة انتقاص الدول أو تجاوزها، سيادة ووظائف، كانت فادحة النتائج حتى الآن، ما قد يتطلب العمل على إعادة الاعتبار للدولة ولكن ذلك قد لا يتحقق إلا بابتداع تعريف لها جديد في هذا الزمن المعولم.

* كاتب تونسي