عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.
وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات. من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع. لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته. أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته. ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه. في هذه الحلقة تتناول د.سعاد الصباح أحداث استقالة الشيخ عبدالله المبارك وتداعياتها، واعتزاله الحياة السياسية، وما صاحب ذلك من روايات لم يكن لها أساس من الصحة، وقالت إن الحقيقة تكمن في أنه تخلى طواعية وبمحض إرادته عن زهو السلطة وسلطانها عندما أدرك أنه لم يعد بمقدوره التوفيق بين الحكم والمبادئ. كما تطرقت د.سعاد الصباح إلى مخاوف بريطانيا من وصول عبدالله المبارك إلى حكم الكويت للاعتقاد السائد بأنه يكره الإنكليز، كما أن اتصالات عبدالله المبارك العربية والدولية كانت مثار قلق لبريطانيا. أصدر د. أحمد الخطيب كتاباً بعنوان «الكويت: من الإمارة إلى الدولة، ذكريات العمل الوطني والقومي» ضمّنه مسيرة حياته، وإسهامه في العمل العام الكويتي، وتضمن معلومات وآراء جديرة بالتوقف، وتستحق الرد وذلك احتراماً لحقائق التاريخ. وحسناً فعل المؤلف حين قدم لكتابه بقوله: «هذه ليست دراسة علمية ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، فهي ليست إلا رحلتي ورؤيتي عبر الحياة كما عشتها وشاهدتها، لا كما عاشها أو شاهدها غيري، وبالتالي فليس المطلوب هنا أن تكون مرآة عاكسة لما حدث ولكنها الأشياء كما رأيتها... إلا أن الحقيقة هي أن أفكاري وآرائي لم تكن إلا وليدة وقتها... وبالتالي فهي أفكار وآراء مرتبطة في مجملها بالزمن الذي ظهرت فيه وتأثرت بمعطياته» (ص13). وأضاف أنه سجل هذه الذكريات من الذاكرة، لأنه لم يكتب مذكرات ينقل عنها ويقول «ولم أكتب أي مذكرات طول حياتي» (ص14). لقد قرر المؤلف هنا أمرين مهمين: أولهما، أن هذه الأوراق التي نشرها هي وليدة لرؤيته هو فقط، وثانيهما، أن تلك الأفكار والآراء مرتبطة بزمنها ومتأثرة بمعطياته، ومن قراءة هذه الأوراق يبدو واضحاً أن د. الخطيب لم يراع ِحق الآخرين في أن تكون لهم رؤاهم وأفكارهم، وبالتالي ممارستهم النابعة من زمنهم ومعطياته، ومن ثقافتهم المتصلة بمجتمعهم، ومن موقعهم في الحياة، فهناك فارق كبير في الظروف الموضوعية التي تحيط بالكاتب أو الناشط السياسي مثلاً، وتلك المحيطة بمن يتولون الحكم ويتخذون القرارات التي تؤثر على مسيرة المجتمع والدولة، فعلى هؤلاء أن يتدبروا عواقب ما يتبنونه من مواقف أو يتخذونه من قرارات، لأن آثارها وتداعياتها لا تلحق بهم فقط وإنما على مجمل شعب الكويت. لقد أعطى د. الخطيب نفسه الحق في أن يكون له رؤاه وأفكاره، وهذا حق طبيعي ومشروع، ونحن نحترم ذلك، لكنه لم يعط ِ الآخرين حقهم في أن تكون لهم رؤاهم وأفكارهم المختلفة مع ما يعتقد فيه هو، والتي ينبغي فهمها وتقدير أسبابها في إطار ظروفهم ومواقعهم. والقارئ لذكريات د. الخطيب يخرج بانطباع عن أنها تعبّر عن كراهية عميقة لأسرة الصباح ولدورها في الحياة الكويتية، ولا أعرف أسباب ذلك، وهو على أي حال أدرى بمصادرها ودوافعها، وحافظ المؤلف على حجم الكراهية التي انزرعت في نفسه قبل 50 عاماً، مما يجعل القارئ الباحث عن الحقيقة في حيرة من أمره، إذ يكون عليه أن يتزود بكراهية مماثلة، وهو ما أعجز عنه، أو يكون عليه أن يتعامل مع بعض الحوادث الواردة في الكتاب باعتبارها رواسب واسقاطات يخضع تقييمها للمنطق وحده، ما دام جميع الشركاء فيها أو الشهود عليها قد رحلوا عن دنيانا إلى دنيا الحق، ولم يبقَ إلا صاحب الكتاب حياً ليروي من الأحداث ما يشاء، ويحدد ظروفها ووقائعها، وهو في طمأنينة كاملة إلى أن أحداً لا يستطيع نفيها أو تكذيبها، وهو شاهدها الحي الوحيد. والقارئ لكتاب ذكريات د. أحمد الخطيب لابد أن يلاحظ حرصه على الزج باسم الشيخ عبداللّه المبارك بمناسبة أو بدون مناسبة عبر صفحات الكتاب. يذكر الدكتور الخطيب في كتابه (ص 202 - 203): «قبيل الاستقلال بقليل وجدنا أن بعض أفراد العائلة ممن كانوا عقبه أمام التطور مثل فهد السالم وعبداللّه المبارك، قد اختفوا من المنافسة على السلطة في ظروف مختلفة، فقد توفي فهد السالم فجأة عام 1958 عندما كان في رحلة بحرية قرب الشواطئ السعودية. أمّا عبداللّه المبارك فقد أثير الكثير حول اختفائه المفاجئ قبيل الاستقلال بحوالي الشهرين بما يمكن تشبيهه بعملية إبعاد عن البلاد، إذ استمر في المنفى مدة طويلة، وقد قيل الكثير حول أسباب رحيل عبداللّه المبارك. وهل كان ذلك الابتعاد بإرادته أي أنه استقال ذاتياً وقرّر مغادرة البلاد أم أنه أجبر على ذلك، فقد أكّدت بعض الآراء أنه قرر الاستقالة والابتعاد لأسباب تشمل من ضمنها موقف عبداللّه السالم من محاولة عبداللّه المبارك حلّ الإشكالات القائمة بين الكويت والعراق. كذلك يذكر ضمن ذلك خوف بعض الشيوخ منه بعد الاستعراض العسكري الكبير الذي أشرف عبداللّه المبارك عليه، كذلك يذكر ضمن الأسباب أنه كان له موقف معارض لقانون الجزاء الذي يسمح بالضرب. أمّا ما أراه أقرب إلى الواقع فهو تراكمات كانت في مجملها تتلخص في الموقف السلبي والمضايقات التي كان يقوم بها عبداللّه المبارك ضد سعد العبداللّه، فمن المعروف أنه كان قد تم دمج الأمن العام والشرطة في جهاز واحد في فبراير 1958 إذ أصبح عبداللّه المبارك رئيساً للجهاز الجديد بينما أصبح سعد العبداللّه نائباً له، أمّا رئيس الشرطة صباح السالم فقد أصبح رئيساً لدائرة الصحة. إلا أنّ عبداللّه المبارك استمر في التضييق على سعد العبداللّه بصورة غير مقبولة، مما دفع سعد العبداللّه إلى إعلان عزمه على الاستقالة، وقد أدّى ذلك وربما أسباب أخرى إلى أن يقوم عبداللّه السالم بإبلاغ عبداللّه المبارك بمغادرة البلاد فوراً ودون تأخير وذلك من خلال رسالة نقلها إليه حمد الصالح الحميضي، وقد عاب جلساء عبداللّه المبارك عليه استجابته السريعة دون نقاش. وفي تقديري وبغضّ النظر عن أي أسباب أخرى فإن موقفه من سعد العبداللّه كان هو السبب الرئيسي لإبعاده عن البلاد". لم يكن إذاً للشيخ سعد العبداللّه دور أو مسؤولية فيما حدث، والغريب أن يتحدّث د. الخطيب عن المضايقات التي سببها الشيخ عبداللّه المبارك له، فلم يكن هناك بين الرجلين سوى أعمق مشاعر الاحترام المتبادل والمودّة الخالصة. والغريب أنّ د. أحمد الخطيب، وقد عاصر هذه المرحلة ومن معاصريها شهود أحياء لم يكلّف نفسه سؤال أحدهم ولو بعد أربعين عاماً عن واقعة الاستقالة. بل أنه لم يسأل أمير البلاد الشيخ عبداللّه السالم، وهو الذي يصوّر لقرائه صلته الوثيقة به، وأنه كان ينسّق ويرتّب الأمور مع الأمير الراحل!! يا سبحان اللّه. كان الشيخ عبداللّه المبارك هو الساعد الأيمن للشيخ عبداللّه السالم من بداية عهده في عام 1950 وحتى استقالة الشيخ عبداللّه قبل الاستقلال بثلاثة أشهر. وتولّى حكم الإمارة في فترات غياب الحاكم. ونظراً لكبر سن الشيخ عبداللّه السالم وشخصيته وأسلوبه، فإن هذا الدور لم يكن شكلياً أو مظهرياً، وإنّما وقعت على كاهل الشيخ عبداللّه المبارك مسؤولية الحكم والإدارة اليومية للأمور بشكل مباشر في جزء كبير من حقبة الخمسينات، واعتمد عليه الحاكم في كثير من الأمور الداخلية والخارجية. وليس عندي أدنى شك في أنه عندما يكتب تاريخ الكويت في القرن العشرين، فإن عبداللّه المبارك سوف يحتلّ مكانه باعتباره واحداً من أهم أعلام التاريخ الكويتي الحديث، ومن أهم الرموز السياسية التي شاركت في بناء الكويت المعاصرة.. تراثه بين أبناء بلده كبير، وإسهاماته الوطنية تدل عليها تلك الطفرة في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، والتي كان له دور بارز في إقامتها. إن الشخصيات التاريخية التي تمثّل علامات فارقة في تاريخ مجتمعاتها لا تقوم بدورها في فراغ، وإنّما تعمل في إطار سياق تاريخي ما. ونجاح الشخصية التاريخية يتحدد بالقدرة على التفاعل مع بيئتها، وفهم محدداتها، وعدم تجاوز القيود التي تفرضها إلاّ في حدود معينة، كما يتحدد بالقدرة على إحداث التوازن بين الأهداف والقدرات. لذلك، من الضروري أن نضع إسهام الشخصية التاريخية لعبداللّه المبارك في إطار ظروفها وسياقها ومحدداتها. فمن ناحية أولى، فإن أول ما يلفت النظر في شخصية عبداللّه المبارك هو نسبه. فأبوه هو الشيخ مبارك الكبير، مؤسس الكويت الحديثة، الذي اتْسعت في عهده رقعة الكويت وازدهرت تجارتها، وتنوّعت علاقاتها الخارجية والدولية. ولا شك أن هذا ترك تأثيراً داخلياً لدى الشيخ عبداللّه المبارك الذي استمع إلى الكثير عن أبيه وعن جهوده لبناء الكويت ولفرض سلطانها على أراضيها، والحروب الكثيرة للدفاع عنها التي أعطته وضعاً خاصاً داخل أسرة الصباح، وشعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه الأسرة والوطن. من ناحية ثانية، فإن الشيخ عبداللّه المبارك عاش في أروقة السلطة ودوائر الحكم لمدة طويلة ناهزت ثلث قرن من الزمان. اعترك خلالها المسؤولية العامة على مستوياتها المختلفة، ابتداء من حراسة السور وهو صبي، إلى مدير لدائرة الأمن العام، فالرجل الثاني في الكويت وهو في بداية الحلقة الرابعة من عمره. ونتيجة اضطلاعه بهذه المسؤوليات، تمرّس الشيخ عبداللّه المبارك بفنون الحكم وأساليبه، وخصوصاً أنه عاصر مرحلة التحول الكبرى في حياة الكويت من البداوة إلى التحضّر، ومن صيد اللؤلؤ والتجارة إلى إنتاج النفط. وكان في قلب الجهاز الإداري الذي باشر عملية التغيير الكبرى في حياة المجتمع في حقبة الخمسينات والستينات، وترتّب على ذلك تعدّد الخبرات الإدارية والمسؤوليات السياسية لعبداللّه المبارك، وتأسيس الجيش الكويتي، مجلس المعارف، والإذاعة، والجوازات، علاوة على قضايا السياسة الخارجية، الأمر الذي أكسبه خبرات متنوعة في الإدارة والحكم. ومن ناحية ثالثة، فإن دلالة جهود الشيخ عبداللّه المبارك تتّضح بشكل أكبر عندما نتذكر أن الكويت في الأربعينات كانت بلداً صغيراً يفتقر إلى المؤسسات الإدارية والحكومية، كما كانت تحت الحماية البريطانية، وإن الشيخ عبداللّه المبارك قام بهذه المهام في ظروف صعبة، وكان عليه أن يراعي توازنات داخلية وخارجية عديدة. فبحكم اتفاقية عام 1899، تولّت بريطانيا الشؤون الخارجية للكويت وكانت لندن حريصة على أن تتم اتصالات الكويت الخارجية من خلالها. ولذلك نظرت لندن بقلق بالغ إلى الاتصالات العربية والدولية للشيخ عبداللّه المبارك. لم يتوقف الدور البريطاني عند الأمور الخارجية، فمع ازدياد ثروة الكويت، لم تعد لندن قانعة بدورها التقليدي الذي كفلته لها معاهدة الحماية، ومارسه الوكلاء السياسيون البريطانيون في الكويت لسنين طويلة، والذي اتسم، عموماً، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ولكي يتحقق ذلك، منحت لندن للوكيل السياسي في الكويت سلطات أوسع، كما وفّرت له عدداً أكبر من الموظفين ، وسمح له بالاتصال مباشرة بوزارة الخارجية وليس من خلال المقيم السياسي في الخليج الموجود في البحرين [ The Times. Will Kuwait Garden Be Lovely Long. May 15. 1961]. ومن ناحية أخيرة، فإن ما قام به الشيخ عبداللّه المبارك ينبغي أن ينظر إليه في سياق الإعداد لاستقلال الكويت، وبناء مؤسسات الدولة الكويتية المعاصرة. فصحيح أن عبداللّه المبارك قد اعتزل الحياة السياسية عام 1961 قبل استقلال الكويت بثلاثة أشهر إلاّ أن جهوده في الأربعينات والخمسينات والستينات كانت ضرورية لتحقيق هذا الاستقلال. لم يكن من المتصور أن تستقل الكويت كدولة دون أن يكون لديها جيش حديث، وإدارات أمن وشرطة، وطيران وإذاعة ومرافق أساسية، ومجتمع مدني.. فالاستقلال ليس مجرد شعار أو وضع قانوني، وإنّما هو واقع سياسي، وقدرة على الفعل والممارسة. والمدخل الحقيقي لاستقلال الكويت هو الفترة التي شهدت وضع الأساس لمؤسسات الدولة، وبدء التشغيل الفعلي لها. الأمور التي نتعامل معها اليوم وكأنها من المسلمات لم تكن كذلك من قبل. فعلى سبيل المثال، عندما رغب لبنان في إقامة قنصلية فخرية في الكويت عام 1953، كان عليه أن يتقدّم بطلبه إلى السفارة البريطانية في بيروت [جريدة النهار بتاريخ 22 ديسمبر 1953]. واعترض الوكيل السياسي في الكويت على الطلب باعتبار أن السياسة البريطانية هي ضد وجود أي تمثيل أجنبي في الإمارات المشمولة بالحماية في الخليج، وأن وجود قنصليات لدول أخرى يمثل «تهديداً خطيراً لوضعنا في الكويت» [From Political Agency (Pelly) to Foreign Office. November 30. 1953]. وأدّى اتجاه السياسة البريطانية نحو التدخل في الشؤون الداخلية للكويت إلى مزيد من المواجهات والاحتكاكات بين الشيخ عبداللّه المبارك والوكيل السياسي. وإذا بحثنا في الوثائق البريطانية داخل الأسرة الحاكمة، وعن الشخصيات المتنافسة على الحكم، وحظ كل منها فيه، وتقييم الإنكليز والأمريكان لكل منهم. سوف أعرض ما تذكره التقارير في هذا الصدد: في تقرير للوكيل السياسي غالوي بتاريخ 19 يناير عام 1949 عن الوضع السياسي في الكويت بدأه بأنه: «هناك شيئاً واحداً مؤكداً أنه سوف يحدث صراع من خلافة الحكم والتي تتضمن الاستخدام الفعلي للسلاح» [From Political Agency (Calloway) to Political Residency (Hay). January 19. 1949]. «وأنّ هناك اتفاقاً عاماً حول تولّي الشيخ عبداللّه السالم الحكم بعد الشيخ أحمد الجابر، وأنه إذا حاول الشيخ عبداللّه المبارك استخدام القوة، فسيواجه بقوة الشرطة التي يسيطر عليها الشيخ صباح السالم شقيق الحاكم المنتظر». وهكذا، في هذا الوقت المبكّر أثارت التقارير البريطانية الشكوك والمخاوف حول موقف الشيخ عبداللّه المبارك، وإمكانية استخدامه القوة للوصول للسلطة، وظلّت تطارده بهذه الشكوك حتى استقالته. كانت المناسبة الأولى التي ركّزت فيها التقارير البريطانية على موضوع ولاية الحكم في عام 1950، وذلك مع تدهور صحة الشيخ أحمد الجابر. في 18 يناير عام 1950، كتب الوكيل السياسي أن: «صحة الحاكم في تدهور، وأن الشيخ عبداللّه السالم في طريقه لزيارة الهند، وأن الشيخ عبداللّه المبارك يستقبل الضيوف في قصر الحاكم، وأنه إذا توفي الأمير فإنه - أي الشيخ عبداللّه المبارك - «سوف يسعى لخلافته»، وربما ينتج عن ذلك صدام بين قوات الأمن العام وقوات الشرطة وأنه في هذه الحالة من المحتمل أن تتدخل القوات البريطانية لإعادة النظام إلى البلاد». ولا يدع الوكيل السياسي مجالاً للشك في نوايا الشيخ عبداللّه المبارك، فيؤكّد أنه إذا مات الحاكم والشيخ عبداللّه السالم في الخارج فإنه «لا يوجد شك في أن مباركاً (يقصد الشيخ عبداللّه المبارك) سوف يقتنص الفرصة لكي يصبح الحاكم القادم» [From Political Agency (Jakins) to Foreign Office. January 21. 1950]. كان تقدير الوكيل السياسي أن: «الشيخ عبداللّه المبارك يتمتع بتأييد البادية ويسيطر على قوة عسكرية كبيرة». وكان تقدير القنصل الأمريكي في البصرة أن: «الشيخ عبداللّه السالم هو المرشّح لولاية الحكم، وأن الشيخ عبداللّه المبارك هو أقوى منافس له وأنه يحظى بتأييد البادية وأهل الصحراء ولكن شركات النفط «تخشاه ولا ترغب أن يكون الحاكم»، وأن الوكيل السياسي البريطاني والغربيين عموماً يتعاملون معه بقدر كبير من عدم الثقة. وأن: «الاعتقاد السائد في الكويت بين البريطانيين وبقية الغربيين هو أن عبداللّه المبارك يكره الإنكليز في الواقع، وأن الوكيل السياسي وموظفي الوكالة عبّروا عن عدم رضائهم وعدم إعجابهم بعبداللّه المبارك» [From American Consulate (English) to Department of State, January 30. 1950]. وعلى الرغم من أن أحد أعضاء الأسرة الحاكمة ناقش الأمر مع الوكيل السياسي، وأكّد له وجود تقاليد وأعراف بخصوص ولاية الحكم داخل آل الصباح، وأن الشيخ عبداللّه المبارك لن ينازع الشيخ عبداللّه السالم الحكم، فقد تصرّفت السلطات البريطانية على أساس هذه الشكوك والمخاوف وتوقّعت حدوث اضطرابات في الكويت. لذلك، فقد صدرت الأوامر لإحدى السفن الحربية بالاقتراب من الشاطئ، وأعلن قائد القوات البريّة في منطقة الشرق الأوسط حالة الطوارئ بحيث يكون على استعداد للتدخل السريع إذا تطلب الأمر ذلك [From American Consulate (English) to Department of State, February 8. 1950]. وبالفعل، تحرّكت ثلاثون عربة مدرّعة من قاعدة الحبانية بالعراق، وأخذت مواقعها قرب مدينة البصرة تأهباً لأي احتمال، كما أمر الوكيل السياسي شركة النفط باتخاذ إجراءات تأمين احتياطية لمواجهة أي موقف طارئ. كما قامت الشركة بترحيل عائلات بعض موظفيها إلى الخارج، وبنقل وثائقها وأوراقها من مكاتب الشركة إلى أماكن أخرى. وكانت هذه الإجراءات، حسب تقرير القنصل الأمريكي، «لمواجهة أي محاولة من جانب الشيخ عبداللّه المبارك للاستيلاء على السلطة»، وذكر في تقرير له: «أن المقيم البريطاني في البحرين أخبره بأنهم - أي الإنكليز - اتّخذوا الإجراءات اللازمة تخوّفاً مما يمكن للشيخ عبداللّه المبارك أن يقوم به بعد وفاة الحاكم» [تقرير 8 فبراير 1950]. فماذا حدث في الواقع؟ الذي حدث أنّ كل هذه المخاوف لم يكن لها أساس، وتصرّف الشيخ عبداللّه المبارك وفقاً للقواعد والتقاليد المرعية. توفي الشيخ أحمد الجابر في الساعة السابعة والربع من مساء يوم 29 يناير عام 1950 عن عمر يناهز الرابعة والستين، وكانت وفاته بقصر دسمان. على الفور، سيطر الشيخ عبداللّه المبارك على الموقف، فأمر بإذاعة الخبر على المواطنين، وطلب منهم إغلاق الحوانيت، وإعلان حالة الحداد، وانتشرت قوات الأمن العام في شوارع المدينة. وفي نفس الوقت أرسل إلى الشيخ عبداللّه السالم يطلب منه سرعة العودة. وفي تمام الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي - 30 يناير - شيّعت الجنازة، وكان على رأسها الشيخ عبداللّه المبارك وكبار رجال أسرة الصباح وأعيان المدينة وكبار التّجار. وحسب تقدير القنصل الأمريكي، «فقد شارك في مراسم التشييع قرابة خمسة عشر ألف شخص». وفي صباح يوم 31 يناير، وصل الشيخ عبداللّه السالم بالباخرة، وكان في استقباله الشيخ عبداللّه المبارك الذي اصطحبه إلى مقر دائرة الأمن العام، وجلسا سويّاً لتقبل العزاء من المواطنين. وفي ملاحظة ذكية للقنصل الأمريكي، أورد في أحد تقاريره عن تلك المناسبة أن: «الشيخ عبداللّه المبارك قام بكل الإجراءات دون أي إشارة إلى العلاقة الخاصة التي تربط الكويت ببريطانيا» [From American Consulate (English) to Department of State. January 30 - 31, and February 5. 1950]. في يوم 25 فبراير، تمّ تنصيب الشيخ عبداللّه السالم أميراً على الكويت، وتولّى الشيخ عبداللّه المبارك الإشراف على كل الترتيبات المتعلّقة بمراسم التنصيب، والتي تضمنت احتفالاً كبيراً في ساحة الصفاة. وحسب مصادر الوكيل السياسي، فإن الشيخ عبداللّه المبارك ذكر للحاكم أن: «كل شيء تم حسب رغبتك» وهو ما فسّره الوكيل السياسي بأنه: «تعبير عن ولاء الشيخ عبداللّه المبارك للحاكم، واستعداده للعمل تحت قيادته بإخلاص» [From American Consulate (Jakins) to Political Residency (Hay), March 1. 1950]. ومن الأرجح أن الوكيل السياسي تنبّه أيضاً إلى المعنى الذي لاحظه القنصل الأمريكي، وتجاهل الشيخ عبداللّه المبارك للإشارة إلى العلاقة الخاصة بين الكويت وبريطانيا، وأكّد لديه مشاعر الشك والريبة في نوايا عبداللّه المبارك تجاه الإنكليز. والغريب حقاً أن بعض المصادر الإنكليزية والعربية تذكر معلومات تتعلّق بأحداث هذا العام لا سند لها البتة من الحقيقة مثل ما ورد في كتاب الدكتور جمال زكريا قاسم في كتابه بعنوان: «الخليج العربي: دراسة لتاريخه المعاصر 1945 - 1971 من أن الشيخ عبداللّه المبارك «دبّر محاولة انقلاب عام 1950، ولكن المحاولة فشلت وفرّ القائم بها إلى مصر» [(القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، 1974)]. ويبدو أن المؤلّف نقل هذه المعلومة الخاطئة عن مؤلف للدكتور صلاح العقاد «معالم التغير في دول الخليج العربي» وكلاهما نقل عن كتاب باللغة الإنكليزية بعنوان: «السياسة في الشرق الأوسط: البعد العسكري» [J.C. Hurewitz. Middle East Politics: The Military Dimension. New York: Frederick A. Praeger. 1969]. لمؤلّفه الأستاذ ج.س. هورويتز الذي كان يدرّس بجامعة كولومبيا الأمريكية. والحقّ أن القصة كلها لا أساس لها من الصحة. وفي 12 أكتوبر عام 1953 - ونقلاً عن وكالة الأنباء العربية في العراق، وجريدة لواء الاستقلال في بغداد - صدر كثير من الصحف العربية بعناوين مثل: «إرغام أمير الكويت على الاستقالة، بارجة حربية تسرع إلى الكويت، عبداللّه المبارك قام بانقلاب عسكري وأرغم أمير الكويت على الاستقالة» [جرائد الأهرام، والأخبار، والجريدة بتاريخ 12 أكتوبر 1953]. وسرعان ما أعلنت وزارة الخارجية البريطانية أن: «هذه الأنباء لا أساس لها من الصحة [From Political Agency (Pelly) to Political Residency (Burrows, October 19. 1953]، ونفي الشيخ عبداللّه المبارك قيامه بأي انقلاب» [جرائد الأهرام، والأخبار، والجريدة بتاريخ 14 أكتوبر 1953]. وفي تقرير للسفير البريطاني ببغداد، ذكر أنه: «عندما التقى رئيس الوزراء العراقي، د. فاضل الجمالي، بادره رئيس الوزراء بالسؤال عن أخبار الانقلاب في الكويت، فردّ السفير بأن كل الأخبار مصدرها العراق» [From British Embassy in Baghdad (Mackenzie) to Political Agency, October 19. 1953]. وفي نفس العام، تردّدت أنباء في الصحف العربية - مصدرها بغداد أيضاً - «بأن الشيخ عبداللّه السالم قدّم استقالته احتجاجاً على استمرار الخلافات بين الشيخ عبداللّه المبارك والشيخ فهد السالم، ثم عدل عنها بعد ذلك» [جريدة الجريدة بتاريخ 12 أكتوبر 1953]. وينبغي أن نتوقف هنا لملاحظة أن الشائعات عن وجود انشقاقات وخلافات بين شيوخ الكويت كان مصدرها بغداد. كما كتبت السفارة الأمريكية في لندن تقريراً إلى واشنطن تؤكد فيه أنه: «بناء على اتصالاتها مع وزارة الخارجية البريطانية، فإن كل ما تناقلته وكالات الأنباء عن استقالة أمير الكويت أو محاولة الانقلاب ضده هي محض شائعات لا أساس لها من الصحة» [From American Embassy in London (Rend - field) to Secretary of State, October 12, 1952]. واستمرت المخاوف البريطانية، وفي تقرير في فبراير عام 1955 عن الشخصيات المحتملة لتولّي الحكم في الكويت بعد الشيخ عبداللّه السالم، وصف الوكيل السياسي احتمال تولي الشيخ عبداللّه المبارك بأنه «مصيبة» (Disaster) بالنسبة لبريطانيا، وأنّه من الضروري اتخاذ الخطوات اللازمة لمواجهة أيّة محاولة من جانبه للاستيلاء على السلطة بالقوة [From Political Agency (Pelly) to Foreign Office (Eden). February 14. 1955]. وفي أول تقرير كتبه الوكيل السياسي البريطاني الجديد - بل - بعد تعيينه في صيف عام 1955، ذكر أنه في حالة وفاة الحاكم أو تنازله عن الحكم، فإن موقف الشيخ عبداللّه المبارك سيكون قوياً للغاية. «ولا يوجد عندي شك في أنه إذا أراد، فإنه يستطيع الوصول إلى الحكم بتأييد عام من أسرة الصباح أو بدونه. وبنفس المنطق، فإنه يستطيع أن يضمن الحكم للمرشح الذي يختاره». وفسّر قوة الشيخ بنفوذه الكبير في داخل الأسرة، وبالقوة العسكرية التي يسيطر عليها، والتي لا يمكن لأحد أن يتحدّاها [From Political Agency (Bell) to Foreign Office (Fry). August 15, 1955]. وبعدها بعامين، كتب الوكيل السياسي في 17 يناير عام 1957 أنه في حالة وفاة الحاكم فإن هناك احتمالاً كبيراً في أن يقوم الشيخ بالاستيلاء على السلطة بالقوة، «وأنه لابد أن نكون مستعدّين للتصرف بسرعة وحسم، وفي أسرع وقت في مواجهة الموقف» [From Political Agency (Bell) to Political Residency, January 17. 1957]. أمّا تقييم الوكيل في تقرير له في عام 1959، فذكر أن: «أسهم الشيخ عبداللّه المبارك قد ارتفعت بدرجة كبيرة في الشهور الستة الأخيرة، وأنّ نفوذه برز بشكل واضح، كما أنه تمتع بقبول عام. لذلك، فإنه لا يوجد احتمال لاستخدام القوة من جانبه في حالة وفاة الحاكم أو تنازله» [From Political Agency (Halford) to Foreign Office (Baeumont). June 25, 1959]. التقييم نفسه وصل إليه تقرير للقنصل الأمريكي بتاريخ 28 فبراير عام 1958 عن ولاية العهد، ذكر فيه أنه: «بينما لم يصدر إعلان رسمي حول شخص حاكم الكويت القادم، فإن القنصلية تعتقد أن المجلس الأعلى قد وافق على الشيخ عبداللّه المبارك باعتباره ولياً للعهد. وأسّس كاتب التقرير هذا الرأي على مناقشات ومعلومات من مصادر وصفها بأنها «موثوق بها» من بينها بدر الملا، سكرتير الأمير، وعزّت جعفر، مدير ديوان الأمير» [From American Consulate (Seelye) to Department of State, February 28 1958]. وتمتلئ التقارير البريطانية بالشائعات التي انتشرت في الكويت وقتذاك، مثل القول بأن: «الخلاف بين الشيخ عبداللّه المبارك والحاكم بدأ في صيف عام 1959 عندما سافر الحاكم لقضاء إجازته الصيفية في لبنان، وكان الشيخ عبداللّه المبارك في الخارج، ولم يطلب منه - كالعادة - العودة لتولّي مهام نائب الحاكم مما أغضب الشيخ عبداللّه المبارك» ولم يكن هذا صحيحاً لأن الشيخ عبداللّه المبارك كان في رحلة علاج لعينيه في السويد، ولم يكن بإمكانه العودة. ومثل القول بأن: «الشيخ عبداللّه المبارك أمر بعدم إعطاء بيانات الإنفاق الخاص بدائرة الأمن العام لبعثة البنك الدولي للإنشاء والتعمير التي وصلت الكويت في مارس عام 1961 وبدأت في العمل لوضع قواعد النظام المالي والمحاسبي للدوائر الحكومية»، ولم يكن ذلك صحيحاً أيضاً، فحسب تقرير الوكيل السياسي في 12 مارس عام 1961، «فإن بعثة البنك الدولي طلبت من كل الدوائر الحكومية إرسال مقترحاتها الخاصة بالميزانية، ما عدا دائرة الأمن العام وذلك لحساسية مجال نشاطها» [From Political Agency (Richmond) to Foreign Office (Beaumont). March 12, 1961]. وهكذا، فإن الشائعة الخاصة برفض الشيخ عبداللّه المبارك إطلاع البعثة على أرقام الإنفاق العسكري لم يكن لها أساس، لأن البعثة لم تطلب ذلك أصلاً. ومثلها، فإن الشائعة الخاصة بأن الشيخ عبداللّه المبارك قام بشراء السلاح «من وراء ظهر الحاكم» أو بدون معرفته، ليس لها أساس. ولم يكن ذلك ممكناً أو وارداً من الأصل، لأن الحكومة البريطانية كانت تطلب موافقة الحاكم الصريحة على أي صفقة سلاح، وكان ذلك شرطاً للوكيل السياسي قبل إعطاء تصريح الموافقة للشركات المصدّرة للسلاح. كذلك، فإن الشائعات التي انتشرت حول القيود التي فرضتها دائرة المالية على شراء السلاح لم يكن لها ظلّ من الحقيقة. والحقيقة، وفقاً لتقرير الوكيل السياسي في 19 مايو عام 1960، أنّه: «لم يحدث خفض كبير لميزانية دائرتي الأمن العام والشرطة مثلما حدث لدائرة الأشغال العامة، وكل ما حدث هو طلب دائرة المالية إنفاق المخصصات القائمة قبل التقدّم بطلبات مالية جديدة، وأن يتم تنظيم ميزانية كل دائرة بشكل محدد» [From Political Agency (Richmond) to Political Residency (Middleton), May 19. 1960]. وطبّقت هذه القواعد على كل الدوائر الحكومية ولم تكن موجهة ضد إحداها بالذات. وحسب رواية الشيخ صباح السالم للوكيل السياسي، فإن: «الشيخ عبداللّه المبار ك قدّم استقالته للحاكم الذي أرسلها إلى المجلس الأعلى لبحثها» [From Political Agency (Richmond) to Foreign Office (Walmsley). June 11, 1961] وبعد مداولات مطوّلة، قرر المجلس في 25 أبريل عام 1961 «أنّ الخدمات التي يقدّمها الشيخ عبداللّه المبارك للكويت خدمات ضرورية»، وقام الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبداللّه بإبلاغ الحاكم بأن المجلس الأعلى قرّر رفض الاستقالة. وأنّ المجلس يطلب من الحاكم إبلاغ الشيخ عبداللّه المبارك بذلك. ولكن الحاكم طلب من المجلس تنفيذ قراره، فأرسل المجلس خطاباً للشيخ يطلب منه الرجوع عن قرار الاستقالة، والعودة إلى الكويت ليقوم بمهامه مرّة أخرى. وقام الشيخ عبداللّه المبارك بإرسال رد مكتوب على هذا الخطاب استخدم فيه لغة راقية، كما جاء في تقرير الوكيل السياسي - فقد شكر الشيخ عبداللّه المبارك المجلس الأعلى على خطابه، مشيراً إلى أن: «البحث في موضوع استقالته يخرج عن نطاق اختصاص المجلس، وأنّه يتعلّق به وبالأمير فقط، وأنّه سيقوم بسحب استقالته عندما يطلب الأمير منه ذلك». وكان مرّد موقف الشيخ عبداللّه المبارك أنه كان أكبر أعضاء المجلس سناً ومكانة، وهو الذي يرأس اجتماعاته في غياب الأمير ومن ثم كان من الطبيعي أن يكون القرار بشأن قبول استقالته من عدمه بيد الأمير وحده وعلى أساس أنها موجهة إليه باعتباره نائبه. ولم يسحب الشيخ عبداللّه المبارك استقالته، كما لم يقبلها المجلس الأعلى، ولم يتّخذ الأمير قراراً بقبولها، وكان ذلك وضعاً غريباً، وأزمة غير مسبوقة تواجه نظام الحكم في الكويت [المصدر السابق]. وحسب تقدير الوكيل السياسي في تقرير له بتاريخ 30 أبريل، «فإن الشيخ عبداللّه المبارك سوف يعود قريباً لشغل نفس مناصبه السابقة، ولكن بعد أن ينزع ريشه قليلاً» [From Political Agency (Richmond) to Foreign Office (Beaumont). April 30, 1961]. ولكن في تطور مفاجئ للجميع، وقبل إعلان استقلال الكويت بيومين صدر المرسوم الأميري رقم 7 لسنة 1961 في 17 من شهر يونيو عام 1961، الذي نصّ على [النص في الكويت اليوم، عدد 331، بتاريخ 18 يونيو 1961]: «نحن عبداللّه السالم الصباح أمير الكويت بناء على رغبتنا في تنسيق الأعمال وحسن سيرها تحقيقاً للمصلحة العامة. رسمنا بما هو آت: مادة 1: يعيّن سعد عبداللّه السالم الصباح رئيساً للشرطة والأمن العام. مادة 2: على رؤساء الدوائر تنفيذ هذا المرسوم. عبدالله المبارك يعتزل الحياة السياسية عندما استقال عبداللّه المبارك من كل مناصبه واعتزل الحياة السياسية في أبريل 1961، ثار لغط كبير في الدوائر الكويتية والعربية، وكثرت الأقاويل، وتعددت الشائعات حول أسباب الاستقالة. وفي مواجهة ذلك، لاذ الشيخ عبداللّه المبارك بالصمت حفاظاً على وطنه الكويت ولإدراكه للمطامع الإقليمية فيها، وصوناً لوحدة الأسرة وترابطها وتماسكها، والتزاماً منه بالمبادئ الأخلاقية التي اعتقد فيها، وعمل وفقاً لها طوال حياته. لذلك، فإن الشيخ عبداللّه المبارك لم يتحدّث مطلقاً في هذا الموضوع ولاذ بكبرياء الصمت. ولم يكلف نفسه مؤونة الرد على الاتهامات والأكاذيب التي نشرتها بعض الصحف العربية، حتى عندما كان هناك شك بأنها مسربة من مصادر كويتية. والحقيقة، أن موضوع استقالة الشيخ عبداللّه المبارك لا يمكن فهمه على الوجه الصحيح إلاّ إذا نظرنا إليه في سياقه التاريخي، وعلى ضوء المبادئ السياسية والأخلاقية التي التزم بها الرجل طوال حياته. فالشيخ عبداللّه المبارك الذي طالما حذّرت التقارير الدبلوماسية البريطانية من سعيه للسلطة، ومن تكديسه للسلاح لاستخدامه كورقة ضغط في أي صراع على السلطة.. هذا الإنسان تخلّى طواعية وبمحض إرادته عن كل زهو السلطة وسلطانها عندما أدرك أنه لم يعد بمقدوره التوفيق بين الحكم والمبادئ. لم يناور مع أحد، ولم يحاول الضغط على أحد، ولم يستخدم أسباب القوة والنفوذ التي كانت في حوزته، وإنما انسحب في هدوء وكبرياء من على المسرح، وهو في قمة شموخه وسلطته. الحقيقة التاريخية هي أن الشيخ عبداللّه المبارك أصبح في نهاية الخمسينات الشخصية البارزة في حكم الكويت ونائب الحاكم. وبفضل جهوده، تقدّمت أساليب الحكم والإدارة، فبلغت دوائر الحكومة أكثر من عشر دوائر، تولّى هو مباشرة أهمها: دائرة الأمن العام التي أشرفت على الجيش والأمن الداخلي والطيران والسفر والإقامة والإذاعة. احتل الشيخ عبداللّه المبارك هذه المكانة نتيجة عمله لسنين طويلة، ولجهوده في مختلف نواحي الحياة، ولإسهامه في بناء المؤسسات وتحديثها وتطويرها. ويكاد لا يوجد مجال لم يكن فيه للشيخ عبداللّه المبارك دور وإسهام. تحليل بريطاني بعد وفاة أحمد الجابر في سبتمبر عام 1951، كتب الوكيل السياسي تحليلاً لملامح الخريطة السياسية في الكويت على ضوء ما حدث عند وفاة الشيخ أحمد الجابر. ولخّص الوضع على النحو التالي [From Political Agency to Political Residency. September 2, 1951]: 1 - لم يكن هناك قانون أو قواعد محدّدة لاختيار الحاكم، وكان الاختيار يتم بناءً على توافق آراء أفراد الأسرة الحاكمة. 2 - لم يكن هناك مرشّحون بارزون أو متنافسون على خلافة الشيخ أحمد الجابر سوى الشيخ عبداللّه السالم، فقد كان الأكبر سنّاً، فوق الخمسين، وحاز موافقة أغلب أعضاء الأسرة الحاكمة. أمّا المرشّحون الآخرون فقد كانوا، دون الأربعين. 3 - وفي مجموعة ما دون الأربعين كان أبرز المرشحين هو الشيخ عبداللّه المبارك الذي تميّز عن غيره بأحقيّته في وراثة الحكم طبقاً لتقاليد الولاية حيث إنه الابن المباشر للشيخ مبارك الكبير، بينما كان الحاكم الشيخ عبداللّه السالم حفيداً له فقط. أي أن الشيخ عبداللّه المبارك كان «عم» الأمير الحاكم، ولذا، كان يأتي في المرتبة التالية له مباشرة في سلم السلطة والنفوذ، وكان نائباً للأمير. 4 - أمّا الشخصية الثالثة في سلّم السلطة فقط كان الشيخ عبداللّه الأحمد، وهو حفيد الشيخ والابن الأكبر للشيخ أحمد الجابر، والذي عمل مساعداً للشيخ عبداللّه المبارك، ولم يكن الحكم من تطلعاته العاجلة، فقد كان شخصية هادئة ومتدينة، ولم يرغب في أن يتخطّى عمه (الشيخ عبداللّه المبارك) في ولاية الحكم. 5 - أمّا الشخصيتان البارزتان في نفس المجموعة العُمرية واللتان نافستا الشيخ عبداللّه المبارك - حسب تحليل الوكيل السياسي - فهما الشيخ فهد والشيخ صباح، وهما أخوان غير شقيقين للشيخ عبداللّه السالم. أمير الكويت عبداللّه السالم الصباح (يتبع)
محليات
سعاد الصباح تعقّب على ذكريات أحمد الخطيب (7)
04-08-2007