في وداع عام مثقل بالأحزان: زعيمة عظيمة ترحل

نشر في 31-12-2007
آخر تحديث 31-12-2007 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري

لا ينجح الحل الديموقراطي في مجتمع يفتقد الحد الأدنى من قيم الليبرالية، بوجود القبائلية والطائفية والمواريث التعصبية، وتكثر فيه اتهامات التكفير والتخوين أو العمالة، فالديموقراطية ليست علاجاً ناجحاً للإرهاب، الذي كان ضحيته بنازير بوتو، بل إن المناخ الديموقراطي يعطي الفوضى الملائمة للمتطرفين باستغلاله أسوأ استغلال.

عام ثقيل الخطى على وشك الانصراف، لقد كان مثقلاً بالآلام والأحزان والأفراح أيضاً، لكنه يأبى أن يلملم أوراقه ويرحل قبل أن يأخذ معه مزيداً من أرواح الضحايا على امتداد الساحتين العربية والإسلامية، فكانت الكوارث الطبيعية والعمليات الانتحارية، وقد كانت حصيلة إعصار بنغلاديش أكثر من 3،800 ضحية، أما العمليات التفجيرية في العراق ولبنان والجزائر والمغرب وأفغانستان وباكستان وغيرها من مناطق العالم الإسلامي الواسع فضحاياها القتلى والجرحى في ازدياد.

لقد كنا نظن أنه أمكن السيطرة على المد الإرهابي الذي يجتاح المنطقة الإسلامية الواسعة عبر المواجهات الأمنية الوقائية التي نجحت في إجهاض العشرات من المخططات الإرهابية، وحسب إحصائية أخيرة تمكن الأمن السعودي من القبض على 23 خلية إرهابية وتفكيكها وبلغ عدد الموقوفين أمنياً في السعودية وحدها خلال هذه السنة 343 موقوفاً منهم كبار الممولين الذين دعموا شبكة القاعدة -مالياً- وثبت تبرع أحدهم بـ30 مليوناً وبينهم 10 من رجال الدين المنظرين، وذلك غير العمليات التي لم تُعلن لدواع أمنية، وهذا مؤشر جيد على ارتفاع قدرة الأجهزة الأمنية في العمليات الوقائية الاستباقية لكن «الفكر الإرهابي» مازال منتعشا قادراً على تجنيد المزيد من الشباب. وله منابره الإعلامية ودعاته ومنظروه ومبرروه وممولوه وشبكاته التنظيمية على امتداد رقعة العالم الإسلامي ولا أدل على ما نقول من نجاحه في ضربته الكبيرة التي أودت بحياة رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة «بينظير بوتو» -رحمها الله- في عملية انتحارية أسفرت عن مقتل وإصابة 76 شخصاً خلال تجمع انتخابي في مدينة «روالبندي». لقد تفاءلنا بانخفاض مستوى العنف في العراق واستبشرنا خيراً، وقلنا إن «القاعدة» في انحسار بسبب «صحوة» العشائر، ولكن يبدو أن «القاعدة» يئست وأيقنت أنه لا مستقبل لها في الأرض العربية بعد القبض على أنصارها وتفكيك خلاياها وقطع تمويلها، فشلت «القاعدة» في الجزائر في إطلاق حرب عصابات ضد الحكومة، وفي السعودية خسرت الرأي العام وأصبحت كل التيارات الدينية ضدها، وقد بيّن استطلاع أجرته مؤسسة بحثية أميركية بعنوان: «من أجل غد خال من الإرهاب» أن %95 من السعوديين يرون أنه من الضروري مواجهة قضية الإرهاب بصورة شاملة، وأما في الصومال فقد خسرت «القاعدة» حليفتها «المحاكم» التي تشرذمت وفرّت. وفي العراق انقلبت العشائر عليها ومن هنا آثرت «القاعدة» العودة إلى موطنها الأصلي الذي انطلقت منه قبل 6 سنوات، عادت إلى بيتها الحاضن والحامي لها، إلى تلك المنطقة الجبلية الوعرة بين أفغانستان وباكستان التي مازالت تحت نفوذ القبائل وحمايتها، لكنها عادت هذه المرة لتقوم بعملية كبرى تقول من خلالها لأنصارها وللعالم إنها قوية وقادرة وإنها نشيطة لم تضعف وتتحدى الحكومات بمثل هذه العملية الكبيرة!.

لقد كانت الزعيمة الباكستانية المناضلة مستهدفة من «القاعدة» من أول يوم لوصولها وعودتها بعد 8 سنوات من منفاها الطويل إلى باكستان نتيجة تفاهمات بينها وبين الرئيس مشرف، عادت ليستقبلها أسوأ تفجير انتحاري شهدته باكستان في أكتوبر الماضي حيث قتل 139 شخصاً عادت «بوتو» من المنفى، وهي مصممة على إعادة الحياة الديموقراطية عبر خوض الانتخابات التشريعية ومواجهة الإرهاب المتشح باللباس الديني، وبالأخص الفكر المتطرف الذي نما واستشرى في باكستان أخيراً بسبب نفاق ومزايدات الجماعات السياسية الدينية وسكوتها بل تمويلها ودعمها للآلاف من المدارس الدينية التي تستغل الظروف السيئة لآلاف الطلاب والطالبات، فتشحنهم بالفكر المتطرف وتغسل أدمغتهم.

في تلك البيئة الثقافية والاجتماعية وجدت «القاعدة» ملاذها الطبيعي لتجنيد الشباب الباكستاني والأفغاني لخدمة مخططاتها وعملياتها الإرهابية، ولو استعرضنا سلسلة العمليات الانتحارية بدءاً من عملية الجامع الأحمر مروراً بالعملية الأولى التي استهدفت بوتو ثم عملية صلاة العيد التي أودت بحياة 50 مصلياً صبيحة عيد الأضحى، والتي استهدفت وزير الداخلية السابق إضافة إلى العمليات الأخرى في كابل وإسلام آباد التي نشطت على امتداد 6 شهور وانتهاء بعملية اغتيال بوتو الأخيرة لاتضح لنا وبجلاء أن «القاعدة» بعد أن فشلت في الساحة العربية وأدركت أنها بدأت تخسر الأتباع والأضواء أو الجاذبية لم تجد ملاذاً ومتنفساً لعودتها إلى الأضواء إلا تركيز عملياتها في البيئة التي انبثقت منها كتعويض عن خسائرها في الساحة العربية بعد الضربات التي وجهت إليها خصوصاً في السعودية والجزائر والصومال.

إن «القاعدة» تريد أن تحيا وتنتعش ويكون لها حضور إعلامي بشكل مكثف، ولذلك فهي تستغل الإعلام العربي في ترويج طروحها العربية ومشكلة الإعلام العربي أنها في سياق السبق الإعلامي والإثارة أو الكسب الجماهيري والتنافس على بث تصريحات زعماء القاعدة خصوصاً «الظواهري» الذي بدأ يطالب بمؤتمر صحفي مفتوح مع الإعلاميين تنسى رسالتها التنويرية، فهي إذ تبث أشرطة «القاعدة» وعملياتها ولا تكلف نفسها استضافة القادرين المؤهلين على تفنيد تلك الأفكار من منطلق عقلاني وديني حتى لا تكون دعاية مجانية للمتطرفين يضلّ بها من عندهم القابلية لفكرها المتطرف والسماح، بمؤتمر صحفي لـ«القاعدة» خطأ كبير لا علاقة له بالرأي والرأي الآخر بل في ذلك تزكية للتطرف، ويجب أن تكون رسالة الإعلام واضحة وحازمة بأنه لا حوار مع الإرهاب... أليس عجباً من أمة وصفها القرآن بالخيرية والدعوة بالمعروف وبالتي هي أحسن تكون هذه حالها؟! العالم يحتفل بالأعياد وشباب العالم فرح بالحياة ومباهجها ومسراتها بينما العالم الإسلامي مثقل بأحزانه وآلامه ومواجعه ومنغصاته!! زعيمة إسلامية عظيمة بمكانة «بوتو» تذهب ضحية غدر إرهاب همجي، لا يقيم أي وزن للحياة ولكن دعونا نتساءل: لماذا استهدفوا «بوتو» في أكثر من عملية؟ ولماذا هي بالتحديد؟ لقد استشعرت «القاعدة» نذر الخطر من شعبية بوتو وأدركت أنها الأكثر احتمالا لرئاسة الحكومة بعد الانتخابات، وإذا علمنا أن «بوتو» هي الأكثر تصميماً على مواجهة المدارس الدينية، وقد صرحت بأن هذه المدارس تحوّل الأطفال إلى قتلة، وقد انتقدت مشرّف وقالت إنه فشل في إصلاح المدارس الدينية.

فإذا فازت بوتو وأصبحت رئيسة الحكومة وتقاسمت السلطة مع مشرف فذلك يشكل الخطر الأكبر على مستقبل «القاعدة» هناك، لأن الحكومة الباكستانية حينئذ ستتمكن من إخضاع المدارس الدينية وتطوير مناهجها وترشيد مخرجاتها وإبعاد المتطرفين وتنقية المناهج الدينية من التطرف والتعصب والكراهية، وذلك ببساطة يعني قطع إمدادات «القاعدة» من الموارد البشرية المؤهلة لخدمة مخططاتها، وهذا أمر لا تسمح به «القاعدة» مهما كانت الكلفة، ولذلك لا عجب في مسارعة «القاعدة» في تبني العملية الإجرامية -تحدياً وانتصاراً وإثباتاً للوجود واستعراضاً للقوة- لقد سبق تحذير وزير الداخلية من وجود مخطط شامل لاغتيال مشرّف وبوتو وشريف ومولانا فضل الرحمن -رئيس جمعية علماء الإسلام- الذي أفتى بتحريم العمليات الانتحارية لكنه «لا يُغني حذر عن قدر».

لقد كان مشرّف محقاً في إعلانه «الطوارئ» في أعقاب سلسلة من العمليات التفجيرية المتوالية عبر الأشهر الستة الأخيرة وأيّدته «المحكمة العليا» لكن المعارضة بزعامة «بوتو» نفسها صعدت انتقاداتها وتواصلت ضغوط أميركا وأوروبا وعلّقت «رابطة الكومنولث» -53 بلداً- عضوية باكستان إلى حين عودة الديموقراطية وقيام القانون فاضطر مشرّف لرفع «الطوارئ» فعادت العمليات الانتحارية وسقطت بوتو... ألم يكن من الأوفق استمرار «الطوارئ» وتأجيل الانتخابات في بلد تسوده الاضطرابات؟

ذهبت بوتو ضحية الغدر الإرهابي... هل كانت «القاعدة» ستنجح في عملها الإرهابي لو كانت «الطوارئ» قائمة؟ دعا «بوش» الباكستانيين إلى «تكريم ذكرى بوتو بالاستمرار في العملية الديموقراطية التي ضحت من أجلها بشجاعة» واصفاً العملية بأنها «عمل جبان قام به قتلة متطرفون بغرض تقويض الديموقراطية».

ولكن هل تنفع الديموقراطية بلداً يعاني زحفاً أصولياً إرهابياً؟ وهل تعني هؤلاء القتلة الديموقراطية في شيء؟

هؤلاء أصحاب عقيدة يرون فيها خصومهم السياسيين والحكومة كفرة وخونة وعملاء لأنهم يتعاونون مع الغرب وأميركا ولا يطبقون الشريعة حسب مفهومهم، وموقفهم الشرعي من المرأة أن مكانها البيت فكيف تخرج «سافرة» لتتزعم وتقود المعارضة؟! ذلك رأس الخطايا!!

قبل 60 عاما استقلت الهند وانفصلت باكستان عنها بحجة تكوين «دولة إسلامية»، الهند الآن أكبر ديموقراطية في العالم وباكستان مازالت تتخبط لا حصّلت الإسلام ولا الديموقراطية فلماذا؟ علمانيو الهند حرصوا على ترسيخ ديموقراطيتها. وإسلاميو باكستان بقراءتهم المضطربة للإسلام همّشوا ديموقراطيتها، هكذا تناقض بالمسارين لدولتين لهما نفس التاريخ والجغرافيا والتكوين الإثني!!

لا ينجح الحل الديموقراطي في مجتمع يفتقد الحد الأدنى من قيم الليبرالية. بوجود القبائلية والطائفية والمواريث التعصبية، تكثر فيه اتهامات التكفير والتخوين أو العمالة، الديموقراطية ليست علاجاً ناجحاً للإرهاب بل إن المناخ الديموقراطي يعطي الفوضى الملائمة للمتطرفين باستغلاله أسوأ استغلال، ألم يستغل هتلر الديموقراطية لتأسيس أبشع حكم عرفه التاريخ؟ ألم يكن الألمان عن بكرة أبيهم يعبدون هتلر؟ ألم يدفع العالم ثمناً باهظاً لجنونه؟!

الحل الديموقراطي في بيئة تناهض الليبرالية مغنم للمتطرفين والذين يصلون إلى السلطة ويحكمون بالحديد والنار، ولذلك أتصور أن بعض الشعوب لا تصلح لها الديموقراطية وأنظمتها الحالية أكثر تقدماً وتسامحاً من القوى المعارضة طبقاً لفريد زكريا، العمل الإرهابي أساسه فكر معاد للحياة لا يمكن الخلاص منه إلا بتقويض شبكته التنظيمية من مناهج ومدارس ودعاة ومنظرين ومبررين وإعلام وفتاوى... لا يمكن احتواء الفكر الإرهابي إذا كانت البيئة المجتمعية والإعلامية متعاطفة مع العنف بمسوغات وذرائع وشعارات مضللّة مثل «مقاومة المحتل»، «تطبيق الشريعة» و«إقامة الجهاد» و«كرامة الأمة» إلخ...

لا يمكن اجتثاث الإرهاب إذا كانت التشريعات لا تمس المحرّض والمبرّر والمنظّر، ولاجدوى من تحريم العمل الإرهابي وحده وترك دعاة الكراهية، لأن الإرهابي قد فجّر نفسه ورحل بينما دعاة الكراهية لا تطولهم التشريعات، لن ينتهي العمل الإرهابي حتى نحجّم دعاة الكراهية... وما أكثر دعاة الكراهية الذين يضللون شباب الأمة فمن يحاسبهم؟!

وداعاً أيتها السيدة العظيمة مع دعواتي بالرحمة والمغفرة والأجر العظيم.

كاتب قطري * بالمشاركة مع جريدة «الوطن» القطرية

back to top