هذا الصباح... كان الجو موحياً... معبأ بالندى... والغيم... ورائحة المطر... والموسيقى!

Ad

موسيقى... تملأ السماء، تنتشر في الهواء، وتنبعث من أوراق الشجر، تتنفسها حبات الرمل، يجتاحني من كل الجهات، عبق الموسيقى ويتغلغل في رئتيّ، يُدخل في صدري النشوة، ويخضّب بها أصابع أمنياتي!

تناغماً مع هذا الإحساس الغامر المبهج، وأنا في السيارة أدرت إسطوانة لموسيقى تركية رائعة الجمال، واندمجت مع ذلك القرص المُدمج، الموسيقى التركيه فيها شيء من تكويننا الشرقي، ففي الجُمل الموسيقية شجن يلامس شغاف القلب، وبنفس الوقت فإن صوت الآلات الوترية فرح وراقص، كوقع حبات المطر على زجاج نافذة، المهم تراقصت الآلات الموسيقية في ذلك الـ «سي دي»، وتجاوبت بعضها مع بعض، عبّرت عن مشاعر عميقة مختلفة، نغمة أحسها تهوي بقلبي من عليائه، وأخرى تأخذ بجناحي إلى مواطن السحاب! نغمة تفجر من شراييني ينابيع الدمع، وأخرى «تُسنبل» في وجداني خطوات الفرح! لا صوت سوى صوت الموسيقى في كل مكان، موسيقى فقط... تتكلم، تغني، تبكي، تعاتب، تفرح، ترقص، تلوم، تحرّض، تحب، تمارس كل شيء، وليس عليك سوى الذوبان فيها، والتماهي معها.

وأنا في خضمّ نشوتي تلك، اندهشت من أثر سحر الموسيقى في الروح! وتذكرت بنفس الوقت أن التأليف الموسيقي في عالمنا العربي لم يعد له ذكر كما في السابق، أذكر أننا عندما كنا صغارا نحفظ ونطرب لمقطوعات موسيقيه خالصة، كمقطوعة أطلس مثلا، كما أنه كان هناك ما يشبه العرف بين الملحنين، وهو أن أي ملحن لا بد أن يعمل على تأليف بعض المقطوعات الموسيقية، وتشتهر بعض تلك المؤلفات بشكل ينافس بعض الأغاني! هذه الظاهرة اختفت أو تكاد، وإن كانت موجودة فهي غائبة عن خارطة وسائل الإعلام، أعلم أن هناك مؤلفين موسيقيين معاصرين كعمر خيرت وغيره من الاسماء، لكن أعمالهم بقيت في متناول من يبحث عنها فقط، وليست مُتاحة كما يجب في وسائل الإعلام كالأغاني.

الغالبية الغالبة من الجمهور لم تعد تستمتع بالموسيقى إلا كإضافة، وليس كأساس، كأن تسمع الموسيقى من خلال أغنية، او لقطة سينمائية أو تلفزيونية (الموسيقى التصويرية)، مما جعل الموسيقى الخالصة عملا ثانويا وليس جوهريا.

زياد الرحباني بدأ بمشروع لم يكمله، مشروع ذكي وخطير، حيث قام بتلحين بعض الكلمات العادية جدا، والهابطة أحيانا، وبرأيي أنه قام بفعل ذلك عامدا متعمدا ،لكي «نعتاد» أن نطرب بالموسيقى بغض النظر عن الكلمات، مثل «يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين»، أو أغنية لا اتذكر كلماتها جيدا ربما لسذاجتها تقول فيما معناه «كان حلو الليمون، كان أوسع الصالون، وكان أرخص الصابون... إلخ»، حتى أغنية «كيفك إنتَ» الكلام فيها عادي جدا، لكن القمة الحقيقية لهذه الأغاني تكمن في الموسيقى وليس في الكلمات، وأعتقد أنه لو استمر مشروع زياد لوصلنا إلى مرحلة نستمتع فيها بأغان ٍمن دون كلمات،أي أن هذه المرحلة هي بمنزلة إعادة تأهيل لذائقتنا الموسيقية، وليته نجح في ذلك، لكنّا ارتحنا من تسابق الشعراء على تزويد الملحنين والمطربين بكلمات هابطة وسيئة، اعتقادا منهم بأنهم يضيفون للأغنية بهذا الإبداع الشعري!! على الأقل زياد كان يعي أن الكلمات عادية، ولهذا السبب تحديدا اختارها، لكي ينسب نجاح الأغنية للموسيقى وليس للكلمات.