هناك عوامل وراء زيارة بوش إلى المنطقة تبدأ بربط الإدارة الأميركية القادمة بسلسلة تعهدات شفهية أو مكتوبة، من هذه العوامل «اختراع» عدو أو أعداء جدد للعرب غير العدو الصهيوني لإشغالهم في السنوات الأربع القادمة التي هي فترة الولاية الرئاسية الأميركية، وإيران تتوافر فيها كل المواصفات المثالية لتكون هذا العدو.بينما انتهت الزيارة الاستعراضية للرئيس الأميركي بوش إلى المنطقة العربية إلى ما انتهت إليه من كلام وتصريحات ووعود لا تساوي، في نظر المحللين، ثمن الحبر والورق المستخدم، فقد تركت وراءها سؤالاً حائراً غير مكتمل الإجابة: لماذا جاء... وماذا حقق؟
من المعروف أن السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط لها أولويات، والأولوية الأولى والأخيرة، هي في الحفاظ على مصلحة إسرائيل، حتى لو جاءت ضد مصالح الولايات المتحدة، ومن المتعارف عليه أن النفوذ الصهيوني، في تأثيره في صناعة القرار الشرق أوسطي، يصل إلى الذروة في السنة الأخيرة لولاية الرئيس الأميركي الثانية، حيث تسخّر الإدارة كامل أجهزتها في خدمة الأهداف الصهيونية، حفاظاً على تبرعات اللوبي اليهودي المالية للمرشحين من الحزبين المتنافسين، وللحصول على أصواتهم الناخبة. هذا الكلام ليس جديداً، وهو معروف للقاصي والداني، لكن الجديد في سنة الانتخابات الأميركية الحالية هو قيام الرئيس بوش بجولة في عدد من بلدان الشرق الأوسط، وحزبه الجمهوري على أبواب انتخابات تشير استطلاعات الرأي بحزم وثقة إلى إمكان نجاح الحزب الديموقراطي المنافس.
ومهما قيل في تبرير هذه الزيارة التي شملت عدداً من الدول العربية المعروفة بعلاقتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى إسرائيل طبعاً، فإن لهذه الجولة شبه المكوكية هدفاً واحداً هو الإعلان بشكل مباشر تمسكها بتنفيذ المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية المحتلة، وبالتالي الضغط على العرب بالسير قـُدُماً في تطبيع العلاقة مع إسرائيل، تمهيداً لدفعهم، بالتهديد أو الوعيد أو الاثنين معاً، إلى توقيع معاهدات سلام بشروط تل أبيب.
هناك عوامل أخرى وراء الزيارة تبدأ بربط الإدارة الأميركية القادمة بسلسلة تعهدات شفهية أو مكتوبة، بعدم الخروج عن خط الدعم الأميركي الكامل لإسرائيل بصرف النظر عن الهوية السياسية للرئيس الجديد الذي سيحتل البيت الأبيض. كذلك من هذه العوامل «اختراع» عدو أو أعداء جدد للعرب غير العدو الصهيوني لإشغالهم في السنوات الأربع القادمة التي هي فترة الولاية الرئاسية الأميركية، وإيران تتوافر فيها كل المواصفات المثالية لتكون هذا العدو. وهناك أعداء لم يظهروا بعد على شاشة الرادار الأميركي بشكل واضح هم النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة العربية، يرافقه النفوذ الصيني المالي والسياسي، وبالتالي تنامي اليقظة الأوروبية لسوء السياسة الخارجية الأميركية والرغبة الملحة في أن تكون صاحبة الإرث الأميركي الشرعية في المنطقة.
انطلاقاً من هذا المنطق يمكن فهم السبب أو الأسباب وراء زيارة بوش التي يمكن وضعها في خانة «لزوم ما لا يلزم» إلا توفير خدمة أخيرة لإسرائيل يرغب بوش في أن تستمر إلى ما بعد خروجه من البيت الأبيض. فهو لن يتمكن من تنفيذ وعده للفلسطينيين ولمجموعته العربية في قيام دولة فلسطينية قبل نهاية هذه السنة. كذلك لن يستطيع أن ينهي أسطورة امتلاك إيران السلاح النووي من دون الدخول في صراع عسكري مع طهران، وهو مطلب إسرائيلي ملحّ، وأيضاً لن يقدر على «تنقية» جوّه العربي من ممانعة سورية و«حماس» في غزة و«حزب الله» في لبنان... كل ما باستطاعته أن يفعله هو المساهمة في قيام حلف عربي ضد «الأعداء الوهميين» ودعوة العرب إلى نسيان العدو الحقيقي. وفي هذا المجال سيبذل بوش كل ما تبقى له من جهد ونفوذ لتحقيقه... ولا شيء آخر.
وانطلاقاً من احتمال فشله في تحقيق ما وعد به بقيام دولة فلسطينية مستقلة في العام الحالي، فإن أجهزة الإعلام المتصلة بالبيت الأبيض أخذت تعزف نغمة جديدة تحمّل وزيرة الخارجية رايس تبعات هذا الفشل، باعتبار أنها مهندسة مشروع السلام الإسرائيلي–الفلسطيني. وتظهر جلية بصمات نائب الرئيس تشيني في عزف هذه النغمة لأنها تبعده هو الآخر عن تحمّل المسؤولية، ولعل المقال الذي نشرته جريدة «بوسطن غلوب» بتاريخ السابع من الشهر الحالي، أي قبل يوم واحد من بدء «الزيارة التاريخية»، يجيب عن عدد من الأسئلة المتعلقة بالحرب والسلم في منطقتنا. وأهمية هذا المقال ليست في المعلومات الواردة فيه فحسب، بل بشخصية كاتبه «دانييل ليفي» اليهودي الذي كان مستشاراً لباراك عندما كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية، حيث شارك في ما سمي محادثات «أوسلو 2»، كما اشترك في محادثات «طابا» السلمية مع مصر. وفي ما يلي بعض المعلومات المهمة التي وردت في المقال: «... سيزور الرئيس بوش المنطقة هذا الأسبوع، لكنه سيعتمد على كوندوليزا رايس في الأخذ بيده. إن جهود السلام الجديدة هي طفل رايس بلا منازع. نظرة إلى الحرب في لبنان في العام 2006 تعطي مؤشرات على التحديات الجديدة... ولكي تكون جهود السلام مثمرة، عليها –أي رايس– أن تتعلم دروساً ثلاثة من كيفية معالجتها للحرب في لبنان:1- إن السياسة العربية الهشـّة تحتاج إلى التسوية لا المواجهة لتصل إلى مرحلة الاستقرار.2- الدبلوماسية الأميركية يجب أن تعتمد أسلوب الإصرار والمتابعة وليس الخط المتعرّج والمتقلـّب. 3- العلاقات الخاصة بين القدس وواشنطن يجب أن تـُستخدم لمساعدة إسرائيل في النزول من السلـّم الخطر، وليس تشجيع تل أبيب على الصعود. كان من المفترض في حرب لبنان الأخيرة أن تسحق «حزب الله» لإعادة تكوين سياسة هذا البلد. الأمور لم تجرِ في هذا الاتجاه... لبنان اليوم منقسم على نفسه في العمق وهذا الانقسام يعطي نتائج عكسية ويتطلب مساومات صعبة، والواقع الفلسطيني شبيه إلى حد ما (بالوضع اللبناني). فالسلام الإسرائيلي-الفلسطيني يجب ألا يُبنى على الانقسام بين الفلسطينيين. يجب أن تـُعطى «حماس» دوافع للاشتراك في العملية السياسية. إن «حماس» مهمة ليس لكونها تهدد باستخدام العنف، بل لأنها تعطي مشروعية أكبر لمشروع سلام ضعيف وهش وحظوظاً إضافية لتنفيذ أي اتفاق يمكن التوصل إليه».
* «يجب على رايس أن تتذكر لبنان في معالجتها لموضوع وقف إطلاق النار الإسرائيلي في غزة، وأن تشجع التفاهم بين فتح وبين حماس».
* «لقد انتظرت الدبلوماسية الأميركية إلى اليوم الرابع والثلاثين في حرب لبنان لكي تسهل مرور القرار 1701 الذي أنهى الحرب. وزراء إسرائيليون كبار شهدوا أمام لجنة التحقيق، وأمام مسجّل الصوت، أنهم عندما صوتوا في مجلس الوزراء بالموافقة على ضربة عسكرية، لم يكن في اعتبارهم أن ذلك سيؤدي إلى حرب طويلة. كانوا يعتبرون أن الضغط الدبلوماسي سيؤدي إلى إنهاء النزاع العسكري خلال 48 إلى 96 ساعة. وهذا لم يحصل. أميركا تدخـّلت لمنع حدوثه مما جعل إسرائيل أسيرة إنهاء مهمة لم تكن في الأساس واقعية. إن هذا التأخير في العمل الدبلوماسي لم يبدّل محتوى الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه. غير أنه تسبب في مزيد من القتلى والتدمير وفقدان الهيبة الأميركية. إن رايس تعرف موازين الوضع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتعرف أيضاً أن التأخير في الوصول إلى عقد صفقة ستكون نتائجه كارثية. التحدي الآن لرايس هو معرفة ما إذا كانت قد تعلـّمت من هذه الدروس اللبنانية».
* كاتب لبناني